التحول الديمقراطي في روسيا

التحول الديمقراطي في روسيا

عرض/بدر محمد بدر
يتحدث هذا الكتاب عن عملية “التحول الديمقراطي” في روسيا في العشرين عاما الأخيرة، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى الآن، ويناقش الخطوات التي جرت حتى وصلت روسيا بنظامها السياسي إلى ما يسمى بنموذج “الديمقراطية الموجهة”، الذي يعتمد على الحكم الفردي أو شبه الفردي، ثم مستقبل هذه التجربة في ضوء تطبيقها على أرض الواقع.

– العنوان: التحول الديمقراطي في روسيا
– المؤلف: هاني شادي
– عدد الصفحات: 248
– الناشر: دار العين للنشر، القاهرة
– الطبعة: الأولى، 2013

والمؤلف هو أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة موسكو، وبحكم وجوده في روسيا وتخصصه، يحاول تقديم رؤية علمية وواقعية عما يجري في هذه الدولة الكبيرة المؤثرة، وعلاقة ذلك بما يحدث في المنطقة العربية، خاصة في دول ما يسمى بـ”الربيع العربي”.

ما بعد الشمولية
ويقدم الفصل الأول من الكتاب نظرة عامة عن عملية التحول السياسي في الفضاء السوفياتي السابق، من “الشمولية” إلى “الديمقراطية الموجهة”، منذ إعلان الرئيس الروسي الأسبق “بوريس يلتسين” في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أن هدفه هو بناء دولة تقوم على اقتصاد السوق، وتنتقل إلى نموذج الديمقراطية السياسية الليبرالية الموجود في الغرب.

ويقول المؤلف إن النظم “الديمقراطية الموجهة” تتضمن بعض الحريات والحقوق، التي تستخدم في الأساس للاستهلاك الخارجي أمام الرأي العام الدولي، وللاستهلاك الداخلي أمام قوى المعارضة، التي يعمل نظام “الديمقراطية الموجهة” على إضعافها باستمرار، وهي تختلف عن النظام التسلطي الصريح بأنها مغلفة ببعض مظاهر الديمقراطية الدستورية الحديثة، حيث توجد انتخابات برلمانية ورئاسية ودستور وحرية مقيدة للتعبير عن الرأي.

ويمكن القول إن الرئيس الروسي الأسبق “بوريس يلتسين” هو أول من وضع أساس هذا النوع من الديمقراطية، عندما قصف البرلمان بالدبابات في العام 1993م، وأقر دستورا جديدا يمنحه صلاحيات قصوى في مواجهة السلطة التشريعية، وعندما شاب التزوير الانتخابات الرئاسية عام 1996، التي فاز بها “يلتسين”، بمساعدة المال السياسي الملتحم مع السلطة، وأخيرا عندما قام بتوريث الحكم لخليفته “فلاديمير بوتين”، نهاية العام 1999م.

ثم جاء بوتين ليرسخ هذه الديمقراطية في روسيا على مدى ولايتين رئاسيتين (2000-2008)، ثم توليه منصب رئيس الوزراء، بعد أن قام هو الآخر بتوريث رفيقه “ديمتري ميدفيديف” السلطة الرئاسية لولاية واحدة.

ويشير المؤلف إلى أن الاتجاه نحو “الديمقراطية الموجهة” في معظم بلدان الفضاء السوفياتي السابق عقب سقوطه، لم يكن فقط نتيجة سعي المواطنين إلى التخلص من حالة الفوضى التي عمت البلاد، وحاجتهم إلى الأمن والاستقرار، وإنما كان أيضا نتيجة لخوف الحكام في تلك الأنظمة من المحاسبة القضائية، بسبب ما قاموا به من أفعال تتنافى مع القانون والدستور.

وعلى سبيل المثال عقد يلتسين اتفاقية “بيلوفيجيسكايا بوشا” لتفكيك الاتحاد السوفياتي، دون أن يكون لديه تخويل شعبي، رغم أن استفتاء مارس/آذار 1991 أسفر عن أغلبية (أكثر من 70%) تؤيد إبقاء الاتحاد السوفياتي.
الاتجاه نحو “الديمقراطية الموجهة” في معظم بلدان الفضاء السوفياتي السابق عقب سقوطه، لم يكن فقط نتيجة سعي المواطنين إلى التخلص من حالة الفوضى، وإنما كان أيضا نتيجة لخوف الحكام من المحاسبة القضائية
الصراع على السلطة
ويتناول الفصل الثاني قصة الصراع بين “يلتسين” وأنصاره من جانب، والقوى السياسية والمؤسسات وعلى رأسها البرلمان، الذي بلغ ذروته بإجراء استفتاء شعبي يختار فيه الناخب بين تأييده للبرلمان أو للرئيس “يلتسين”.
وحصل الأخير على تأييد نحو 58.7% من الناخبين، وهو ما فتح الطريق أمامه لحل الأزمة مع البرلمان بالقوة، حيث بدأ بمحاصرته وقطع الماء والكهرباء والاتصالات عنه، وانتهى الأمر بضربه بالدبابات، حيث بلغ عدد ضحاياه نحو 141 قتيلا، حسب التقديرات الرسمية، بينما تشير تقديرات أخرى إلى مقتل نحو 2000 شخص.وعقب ذلك حُلت السلطة التشريعية في جميع أنحاء روسيا، وقرر يلتسين وقف العمل بالمحكمة الدستورية، التي أدانت استخدامه للقوة ضد البرلمان، وأصدر مرسوما بالاستفتاء على دستور جديد (وافق عليه الشعب بأغلبية 57%)، يقوي من السلطة التنفيذية، والسلطة الشخصية لـ”يلتسين” في مواجهة البرلمان.وفي العام 1996 كانت هناك صعوبة كبيرة لفريق “يلتسين” في السيطرة على نتائج الانتخابات البرلمانية، في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، ولذلك كانت الانتخابات الرئاسية خطا أحمر، لا يمكن القبول بتداول السلطة فيه مع المعارضة، وهو ما أدى إلى تحالف “يلتسين” مع مافيا المال السياسي ورجال الأعمال، الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد بعد عمليات الخصخصة.وتحالف كذلك مع وسائل الإعلام، لينجح في النهاية بالفوز رئيسا لمدة جديدة بعد حصوله على 53.8% من إجمالي أصوات الناخبين، وهو ما يمكن فهمه في إطاره “الديمقراطية الموجهة”.

ويشير المؤلف إلى أن الخطوة الأخيرة والمهمة على طريق “الديمقراطية الموجهة” في عهد “يلتسين” كانت نقل السلطة أو “توريث الحكم” في العام 1999، باعتبار أن النظام السياسي الروسي الذي أسسه “يلتسين” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قام على مبدأ تقوية السلطة الشخصية له ولحاشيته.

ونقل السلطة في مثل هذا النظام يمثل في حد ذاته أزمة، لغياب الجانب المؤسسي لهذه العملية، وفي هذه الحالة لا بد من اختيار “الوريث” المناسب، الذي يضمن ليلتسين وحاشيته والعائلة عدم تعقبهم أو محاسبتهم قضائيا, وهو ما حدث باختيار “فلاديمير بوتين” رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، الذي حل محل جهاز الكي جي بي، رئيسا لروسيا، وهذه هي حالة “التوريث” الأولى.

صعود بوتين
ويناقش الفصل الثالث قصة صعود “بوتين” وترسيخ “الديمقراطية الموجهة” من خلال أربعة محاور: تقوية المركز في مواجهة الأطراف، وإخضاع طبقة رجال الأعمال ووسائل الإعلام والسيطرة على النظامين الحزبي والانتخابي، ثم “التوريث الثاني” من “بوتين” إلى “ميدفيديف”.

روسيا تنطلق في نظرتها للثورات العربية، من محاولة التنافس مع الولايات المتحدة الأميركية والناتو على مناطق النفوذ في العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو المبدأ الموروث من العهد السوفياتي

ويشير المؤلف إلى أن “بوتين” عقب انتخابه في مارس/آذار 2000 رئيسا لروسيا، اهتم بتقوية هرم السلطة ومركزية الدولة وإخماد النزعات الانفصالية، التي انتشرت على نطاق واسع في عهد “يلتسين”، وأقدم أيضا على تحويل منصب رئيس الحكومة (وهو الرجل الثاني في روسيا حسب دستور 1993)، إلى منصب فني بحت، لا يتمتع بصلاحيات كبيرة، حتى في السياسة الاقتصادية.

كما أدت عملية الخصخصة، التي تمت في عهد “يلتسين”، إلى تشكيل طبقة من الملاك الجدد، اعتلت قمتها فئة صغيرة من الذين استولوا على ممتلكات الدولة بشكل غير شرعي، ويطلق عليها طبقة “الأوليجاركيا” أو “أباطرة المال”.

واستطاعت هذه الطبقة السيطرة على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة المؤثرة، وقرر “بوتين” تحجيم نفوذ هؤلاء، وطرح عليهم مجموعة من الشروط حتى يتركهم وشأنهم، في مقدمتها الكف عن التدخل في سياسة الدولة والكرملين، ومساعدة الحكومة في برامجها الاجتماعية لمساعدة الفقراء ومحدودي الدخل، وتسديد الضرائب.

وشرع “بوتين” أيضا في العمل على التحكم في الانتخابات البرلمانية والنظام الانتخابي، وأصدر في العام 2001 قانون الأحزاب السياسية، وأدخلت تعديلات كثيرة عليه حتى العام 2005، وكان أحد أهم هذه التعديلات تقليص عدد الأحزاب والحركات السياسية التي يحق لها المشاركة في الانتخابات البرلمانية.

وفي العام 2005 أيضا قرر “بوتين” إلغاء الانتخابات بالقوائم الفردية، وقصرها على القوائم النسبية أو الحزبية فقط، وهو ما كان في مصلحة السلطة بشكل عام، وفي العام 2007 فاز حزب السلطة “روسيا الموحدة” بحوالي 70% من مقاعد البرلمان (الدوما).

ويتحدث المؤلف عن عملية “التوريث الثاني” في نظام “الديمقراطية الموجهة” عندما اختار “بوتين” “ديمتري ميدفيديف” وريثا له في مقعد الرئاسة في العام 2008، وظل بوتين قريبا من السلطة والرجل القوي في روسيا، حتى بعد أن ترك الرئاسة مؤقتا، ثم عاد إليها ابتداء من مارس/آذار 2012.

مستقبل الديمقراطية
ويناقش المؤلف في الفصل الرابع الأخير مستقبل “الديمقراطية الموجهة” في روسيا، والسيناريوهات المحتملة في هذا الشأن، حيث يشير إلى تخوف السلطات الروسية من “عدوى الربيع العربي”، واحتمال استخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، لتأجيج الاحتجاجات في روسيا.

وهذا ما دعا وزارة الداخلية الروسية، في أغسطس/آب 2011، إلى فرض قيود جديدة على مواقع الإنترنت، بحجة مكافحة المتطرفين والإرهابيين.

ويمكن القول إن روسيا تنطلق في نظرتها للثورات العربية، من محاولة التنافس مع الولايات المتحدة الأميركية والناتو على مناطق النفوذ في العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو المبدأ الموروث من العهد السوفياتي، بعد أن نزع القناع الإيديولوجي، ليبقى الصراع أو التنافس على المصالح واضحا وصريحا.

المسألة في روسيا اليوم تعتمد بدرجة كبيرة على المدى الزمنى لتحمل غالبية الشعب الروسي لمعادلة “الخبز مقابل غياب الحرية والديمقراطية”، فشرعية النظام في روسيا لا تزال تعتمد على كاريزما “بوتين”، والأسعار المرتفعة للنفط والغاز

ويقول المؤلف إن موسكو تعد “الربيع العربي” صناعة “أميركية-غربية”، تهدف إلى إعادة تغيير خريطة العالم والشرق الأوسط، وبناء نظام عالمي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها.

وتربط موسكو موقفها المتحفظ من “الثورات العربية” أيضا بأهمية الحفاظ على الأنظمة القائمة، بغض النظر عن استبدادها وفسادها، طالما أن هذه الأنظمة تحقق لروسيا بعض المكاسب.

ويمكن القول في النهاية إن المسألة في روسيا تكمن اليوم في “كم من الوقت” سوف تستمر “الواجهة الديمقراطية”، وتكمن أيضا في مدى صمود نموذج “بوتين” الاقتصادي أمام الأزمة المالية العالمية، وأمام أزمة الاقتصاد الروسي نفسه، المعتمد بشكل متزايد على تصدير المواد الخام، وفي مقدمتها النفط والغاز.

كما أن الأمر يعتمد بدرجة كبيرة على المدى الزمنى لتحمل غالبية الشعب الروسي لمعادلة “الخبز مقابل غياب الحرية والديمقراطية”، فشرعية النظام في روسيا لا تزال تعتمد على كاريزما “فلاديمير بوتين”، والأسعار المرتفعة للنفط والغاز، ولكن في ظروف أقل ملاءمة سيكون “الزعيم” والنظام ككل، أمام خيارات صعبة للغاية.

وربما تأتي الضربة الرئيسية التي قد تتسبب في تفكيك نموذج “الديمقراطية الموجهة” في روسيا، من الشارع والقوى السياسية، اليسارية والليبرالية والديمقراطية والشبابية الجديدة غير الممثلة في البرلمان، والتي تنظم الاجتماعات اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت.

المصدر:الجزيرة

(http://www.aljazeera.net/books/pages/e30a0eb9-8ad8-4df2-87ed-09e828014ebf)

Share Button