الحروب الروسية الصليبية ضد المسلمين في القوقاز

الحروب الروسية الصليبية ضد المسلمين في القوقاز

الكاتب: أحمد الظرافي

16 يوليو/تموز 2009

الغالبية العظمى من المسلمين علموا بقصة الحروب الصليبية ضد بلاد الشام ومصر، وقسم لا بأس به من المسلمين، سمعوا بقصة الحروب الصليبية ضد بلاد المغرب ، ولكن القليل جدا من المسلمين من سمع بقصة الحروب الصليبية التي شنتها روسيا ضد المسلمين في القوقاز والتركستان وآسيا الوسطى ، رغم التشابه الواضح في هذه الحروب من حيث أن العوامل الدينية والاقتصادية والسياسية، هي المحرك الرئيسي لها، ورغم أن الأخيرة لا تقل ضرواة ووحشية وهمجية عن الأولى والثانية، بل أنها لا تزال مستمرة، ولم تتوقف حتى اليوم. ” والناس يذكرون الفظائع الاستعمارية للفرنسيين والإنجليز، ولكن من ذا الذي يذكر الاستعمار الروسي وفظائعه في القرم وشمالي القفقاس وفي التركستان؟ مع أنها كانت أكثر مرارة وأشد نكالا! ، كما قال أحد الكتاب.

وإذا كان ثمة من فارق، فهو أن روسيا، لم تلجأ في احتلال تلك البلدان الإسلامية إلى الأساليب الاستعمارية المستحدثة بل اعتمدت كل الاعتماد على جحافلها وجيوشها ، وعلى ما تستطيع أن توقعه بالناس من قتل وفتك وسلب ونهب.

القوقاز أرضا وإنسانا

القوقاز- أو القفقاس كما في المصطلح الروسي – إقليم جبلي يقع بين البحر الأسود في الغرب، وبحر قزوين في الشرق، وتتصل بينهما شمالا السهوب الروسية المترامية ، في حين تتصل جنوبا بهضبة ارارات. وتمتد سلسلة جبال القفقاس بين البحرين من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي بطول 1200 كيلو متر ، لتشكل حاجزا طبيعيا ، نادر الممرات، وكثيرا ما ينظر

إلى هذه المنطقة الجبلية على أنها منطقة حدود بين أوروبا وآسيا.

والقوقاز من أجمل بقاع الدنيا، مناخها معتدل بارد ، أنهارها كثيرة معطاءة ، سهولها خصبة، تضاريسها تتدرج من السهول الساحلية إلى القمم الشاهقة، التي يصل أعلى ارتفاع فيها إلى 5640 مترا، وتغطي قممها الثلوج والضباب، وتكسو الغابات الكثيفة مساحات كبيرة منها ، تنوعت فيها الأشجار والحيوانات في لوحة تجلت فيها روعة الحياة والطبيعة، وبها أشجار بلوط ضخمة يبلغ ارتفاع بعضها مائتين وثمانين قدماً، ومحيطها خمساً وثلاثين قدماً!!

كما تكثر في المنطقة ينابيع المياه المعدنية ولذا تم في عهد الاتحاد السوفيتي تحويل عشرات المدن فيها إلى مصحات للاستشفاء ومعالجة عشرات الأمراض. بجانب تحويلها إلى إحدى مناطق الاصطياف والمنتجعات المهمة التي يفد إليها ملايين السياح سنويا.

ويتسم القوقاز بتنوع عرقي كبير، واستتبع ذلك تنوع لغوي شديد يندر أن نجد له مثيلاً في بقعة من الأرض لها تلك المساحة الصغيرة. ويقطن القوقاز أكثر من 50 شعبا يتحدثون بلغات مختلفة ولهجات متنوعة. وقد ورد ذكر هذه البلاد في كتب العديد من المؤرخين العرب القدامى، بأسماء مختلفة كبلاد القاف أو القفجاق أو القنبشاق، أو بلاد الكرج أو كرجستان، أو بلاد الشركس. وقد أصاب كثير من الجغرافيين العرب، الذين جابوا الإقليم ودونوا كثيرا من المعلومات التي عرفها العالم عن القوقاز فيما بعد – حينما أطلقوا على الإقليم مسمى) جبل الألسن) في إشارة بليغة إلى التنوع الكبير في لغات الإقليم . وأكثر أشراف الداغستان يدعون أنهم من أصل عربي، وأن آباءهم قدموا مع القائد الأموي مسلمة بن عبد الملك بن مروان، الذي فتح هذه المنطقة سنة 113هـ. ويقول بعض الشيشانيين أيضا أن أصلهم عربي يعود إلى زعيم قبلي اسمه (علي عرب) كان قد هاجر إلى القفقاس من دمشق الشام في زمن متناهي القدم.

وأيا كان الأمر فقد وصِف القوقازيون بشكل عام، بأنهم أناس مرحون ومضيافون، ومتميزون بميولهم الروحية، لكنهم مع ذلك عرفوا بالشجاعة والفروسية وبحب القتال والمواجهة وقوة البأس والتحدي ، وقد ظهر هذا منهم بصورة واضحة بعد اعتناقهم الإسلام وتشربهم لمبادئه.

وقد عملت الدويلات الإسلامية في المشرق ، مثل الدولة السلجوقية والدولة الغزنوية وغيرهما، على تجنيد الكثير من القوقازيين في جيوشهم. فعندما جاء السلاجقة في عام 1037، موحدين لدار الإسلام ومدافعين عنها في وجه البيزنطيين عدو الإسلام الأول في ذلك الحين، بعد أن ضعفت الخلافة العباسية وتناوشتها السيوف، وكانت دولتهم بحاجة ماسة إلى جنود محترفين يمتهنون القتال، للاستعانة بهم في التصدي للأخطار المحدقة بالإسلام – عملوا على جلب الكثير من هؤلاء الأقوام ، سواء بافتدائهم كأسرى حروب، أو استقدامهم بشكل طبيعي، أو حتى جلبهم من أسواق الرقيق ، التي كانت رائجة في القوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود. كما كانت ميناء باب الأبواب ، أو الدربند عاصمة أذربيجان المنيعة على بحر قزوين من المراكز الهامة لتجارة الرقيق الوارد من الأراضي الشمالية في العصر الوسيط.

وعمل سلاطين الأيوبيين من بعدهم على الإكثار منهم في جيوشهم، للاستقواء بهم، والاستفادة من إمكاناتهم العسكرية ، لأن الأيوبيين قبائل كردية، كانت مقيمة في (دوين) قرب تفليس في القفقاس الجنوبي، وعلى معرفة تامة بالقفقاسيين، ومقدرتهم القتالية.وعلى هذا المنوال سار سلاطين المماليك، ثم سلاطين آل عثمان من بعدهم. وقد عُرف الشركس كفرسان محاربين من طراز رفيع في جيوش سلاطين تلك الدول ، وأبلوا أحسن البلاء في معارك الإسلام ضد الصليبيين والتتار والسلاف، حتى أن قائدا الفرقتين الصلاحيتين في معركة حطين وهما: (فخر الدين أباظة, وإياز خوج(، كانا من الشركس، وحتى أن الظاهر بيبرس البندقداري قاهر التتار في عين جالوت ومؤسس دولة المماليك في مصر ، كان شركسيا أيضا – طبقا لبعض الرويات – و”ما بين سنتي 1560 و 1908 ، كان الشراكسة عصب الجيش العثماني. وصل 400 من رجالهم رتبة الباشوية فيه، وكان 12 منهم من الصدور العظام، وحوالي مائة وخمسين ضابطا رتبة مارشال عدا المئات بعد المئات من الوزراء والقادة والولاة والسفراء”

كما ظهرت شجاعة وشدة بأس الشعوب القوقازية، وقوة تمسكها بعقيدتها وهويتها، ووعيها الكامل بانتمائها الروحي إلى دار الإسلام، أثناء مقاومتها للغزو العسكري الروسي الصليبي، الذي بدأ في النصف الأول من القرن السادس عشر، والذي لا زال مستمرا حتى اليوم ، على الرغم من الخذلان أو التجاهل الذي يُقابل به جهادهم ، من قبل إخوانهم المسلمين بشكل عام والعرب بشكل خاص.

وتُقسم منطقة القوقاز إلى قسمين: القوقاز الشمالي، والقوقاز الجنوبي. فأما القوقاز الشمالي بجمهورياته الست ذات الحكم الذاتي والتي تم استحداثها في عهد ستالين لتمزيق الإقليم وإضعافه، وهي جمهوريات: (الشيشان )، و ( داغستان )، و ( أوسيتيا الشمالية )، و ( كبارديا – بلكاريا ) و ( قراطشاي – شيركاسيا ) ، و( الأديغة )، فهي خاضعة للسيادة الروسية، وللسلطة المركزية في موسكو . وهذا القسم يواجه السهوب الروسية مباشرة.

وأما القوقاز الجنوبي، فتتقاسمه في الوقت الراهن ثلاث دول، منها واحدة إسلامية ذات أغلبية شيعية، وهي أذربيجان، واثنتان ذات أغلبية مسيحية، هما جورجيا وأرمينيا على اختلاف في الكنيسة التي تنتمي إليها كل منهما ، فجورجيا مسيحية أرثوذكسية ، وأرمينيا كاثوليكية . والطائفة الأرمنية كانت قد انشقت عن الكاثوليكية، إذ كان الأرمن تحت حكم الفرس ولم يقبلوا بمقررات المجمع النيقاوي سنة 325 ، ورفضوه لكنهم عادوا واتحدوا مع روما سنة 1734م.

الأكثر إثارة للدهشة أن دولة أرمينيا لم يكن لها أي نوع من الوجود السياسي تاريخيا، ولم يتم تشكيلها إلا تحت إمرة الإمبراطورية السوفييتية التي حكمت القوقاز (الموحد) شماله وجنوبه.

ومهما يكن من أمر فإن مقالنا هذا يدور حول القوقاز الشمالي.

الإسلام في القـوقاز

يعود تاريخ دخول الدين الإسلامي إلى منطقة القوقاز إلى عصر صد الإسلام، فقد دخل إليها بعد سنوات قلائل من دخوله في إيران وأذربيجان، ووصلت طلائع الفتح الإسلامي إلى القفقاس وخصوصا إلى الداغستان على الشاطئ الغربي لبحر قزوين، في العام 22 للهجرة (737 م) على هيئة دعاة من بضعه آلاف فارس. ثم جاءت الجيوش الإسلامية، لأول مرة، إلى جنوب القفقاس، وتمكن المسلمون في أواخر خلافة عمر بن الخطاب وبداية خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، من فتح مدينة باب الأبواب الواقعة على بحر قزوين ، والمنطقة المحيطة بها. وتُعرف هذه المدينة أيضا باسم ( الدربند ) ، والدربند لفظ فارسي معناه مضيق في الجبل.

وفي عام 105هـ، فتح العرب في خلافة هشام بن عبد الملك الداغستان، ووطد أخوه مسلمة الحكم العربي في تلك الديار ولا سيما في الدربند عام 113هـ.

وإذا كان الإسلام قد انتشر في التركستان أي الشمال الشرقي من العالم الإسلامي انتشارا كبيرا على عهد الأمويين ، إلا أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للقوقاز . فقد ظل انتشار الإسلام مقتصرا على جنوب القوقاز ، وعلى مناطق في شمال غربه، لاسيما المراكز الهامة منها، أما مناطق الشمال فلم تصل إليها الفتوحات ولم يطرقها أبوابها أحد، في تلك الفترة ، نظرا لوعورة المنطقة، وصعوبة وصول الجيوش إليها، ولكثرة طوائف وأديان ومذاهب أهلها والذين لم يكونوا يخضعون لأي سلطة مركزية.

، وظلت مدينة دربند ثغرا من ثغور دولة الخلافة الإسلامية، ومنها انتشر الإسلام في تلك الأقطار، وكان الأهالي من قبل وثنيين ونصارى ويهودا، وظلت الأجزاء المفتتحة من إقليم القوقاز جزءا من دولة الخلافة العباسية ، لمدة أربعمائة سنة، أي إلى حين انسحب العرب المسلمون أمام الحملة الصليبية الجامحة عام 1087م ، المعروفة بـ ” الحملة الصليبية الأولى ” والتي ساعدت على إقامة حكم الأتراك السلاجقة في قفقاسيا.

ولما جاء التتار بقيادة جنكيز خان (562-624هـ/1167-1227م ) والذين اجتاحوا المنطقة في العام 1236 ، وفرضوا سيادتهم عليها حوالي قرنين من الزمان ، كغيرها من مناطق آسيا، عملوا – بعد أن اعتنق أحد زعمائهم وهو بركة خان ، حفيد جنكيز خان الإسلام، حوالي سنة 1256م ، وصار حربا على بني جنسه مغول فارس- عملوا على نشر الإسلام فيها وفي غيرها، فانتشر الإسلام في بعض الأجزاء من الشيشان، والداغستان، وأنجوش، وكذا ” في مناطق واسعة من روسيا ومنطقة جبال الأورال وعلى طول نهر الفولجا الذي أصبح نهراً إسلامياً من منبعه إلى مصبه، وأقاموا إمارات إسلامية عدة، – إحداها في شمال القوقاز – وأخضعوا لحكمهم في يوم من الأيام مدينة “موسكو” العاصمة الروسية الحالية، وكانوا حماة لحدود الدولة الإسلامية، وصدوا هجمات “السلاف” عن المسلمين لقرون طويلة”.

ولكن انتشار الإسلام في القوقاز ظل بطيئاً – فيما يبدو- ولم يصل إلى مرحلة التحول الجذري ، نظرا للطابع العسكري البدوي للدولة التترية، ونظرا لعدم استقرار المنطقة سياسيا فقد تحولت إلى مسرحٍ للمواجهات العنيفة بين أمراء “الطوائف التترية”.

وعندما ظهر العثمانيين في جوارها في القرن الخامس عشر، أيام محمد الفاتح، (885-886هـ /1551- 1481م) كانت هناك العديد من الكتل المسلمة التي تعمر المنطقة، فعمل العثمانيون على تقوية الإسلام بين شعوبها وقبائلها. وفي عام 1484 قام العثمانيون بحملة على تشيركاسيا ، أسفرت عن تدمير كل المراكز الأساسية لتجارة الرقيق في المنطقة، الأمر الذي زاد من رصيد سمعتهم الطيبة لدى شعوب وقبائل المنطقة .

ويشير بعض المؤرخين الغربيين إلى أن العثمانيين فعلوا ذلك لحرمان سلاطين المماليك من الإمدادات البشرية التي كانت تؤمنها لهم هذه المراكز ، تمهيدا للقضاء عليهم.

وقد أرسل العثمانيون دعاة من الشيوخ والقضاة إلى الشيشان وأقنعوا جماعات من الشيشانيين بالتحول إلى الإسلام بعد أن كانوا وثنيين، فنشط هؤلاء بدورهم في نشر الإسلام في سائر بلاد القوقاز. وبحلول عام 1580 أصبح الإسلام هو الدين المهيمن.

وقد استفادت الطرق الصوفية من هذا التحول، فتولت القيام بالدور الباقي، وكان ذلك في بداية القرن السابع عشر ، انطلاقاً من الداغستان، المطلة على بحر قزوين، والقريبة من أذربيجان.

وقد وجدت الدعوة إلى الإسلام في أوساط شعوب هذه المنطقة استجابة كبيرة ، فانتشر الإسلام في أجزاء كبيرة منها ، وأسست تلك الطرق الصوفية فروعا لها هناك، على أيدي أئمة من أبناء المنطقة نفسها ، ومنها الطريقة النقشبندية والطريقة القادرية. وتنتسب الأولى إلي الداعية الصوفي محمد نقشبند من القرن السادس عشر. وأما الثانية فتنسب إلى القطب الصوفي المشهور، عبد القادر الجيلاني من القرن السادس الهجري. وأما شعب الأديغة فقد آمن بالإسلام في وقت متأخر عن طريق الرسل والدعاة الذين وفدوا إلى بلاد الأديغة في القفقاس الشمالي بمهمة التبشير بالدعوة المحمدية.

ويُعتقد أن من أسباب انتشار الإسلام بين الشيشانيين خاصة والقوقازيين عامة، هو انسجام قيمهم واتجاهاتهم الاجتماعية الأصيلة مع الإسلام.

وأما الاهتمام الروسي بمنطقة القفقاس فقد بدأ في أوائل القرن السادس عشر ، على إثر زيادة النفوذ العثماني فيها ، وبعد أن أستطاع الروس التخلص والانفلات من عقال الحكم التتري عام 1480 ، ومن ثم الظهور على الساحة كقوة مسيحية أرثوذكسية صليبية مناوئة للإسلام والمسلمين، تحاول سد الفراغ الذي نجم عن سقوط بيزنطة بأيدي العثمانيين. وهو ما سنتكلم عنها في موضعه من الفقرة التالية.

وعند قيام الدولة الصفوية في أذربيجان وشمالي إيران عام 1501 ، خضع قسم من بلاد القوقاز لنفوذ مؤسسها الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي ، الذي فرض التشيع على رعاياه بالقوة. ولذا فلا نستغرب إذا علمنا بوجود نسبة قليلة من الشيعة في القوقاز اليوم.

بيد أن الشاه إسماعيل الصفوي أضطر إلى الانسحاب من المنطقة، وكثير من المناطق غيرها، بعد هزيمته القاسية على أيدي العثمانيين ، في جالديران عام 1514 .

ومع هذا فإن السيادة العثمانية وإن شملت بلاد القفقاس ابتداء من أواخر عهد السلطان سليمان القانوني، إلا أنها لم تستمر طويلا. إذ ما لبثت أجزاء منها ( الداغستان ) أن سقطت في يد الشاه عباس الصفوي سنة 1604 ، وظلت السيادة عليها وعلى أذربيجان ، مهد الدولة الصفوية، تتأرجح بين العثمانيين والصفويين حتى عام 1813 حين تنازلت إيران عن داغستان لصالح روسيا، وبدأ الروس يوطدون سلطانهم فى داغستان.

الصعود الروسي وأثره على المسلمين

الروس من الشعوب السلافية – ومنها أيضا الصرب والبلغار – التي أطلق عليها الجغرافيون العرب في العصور الوسطى اسم ” الصقالبة ” ، وكلمة صقلب Esclave فرنسية قديمة، ومعناها عبد أو رقيق، وذلك أن بعض الجرمان دأبوا على سبي تلك الشعوب السلافية، وبيع رجالها ونسائها وخاصة الأطفال منهم، إلى عرب أسبانيا، ومن هنا جاءت التسمية العربية ” الصقالبة “. وكان العرب في ذلك الوقت يطلقون هذا الاسم على سكان البلاد المختلفة من دولة بلغاريا العظمى، التي خرجت من تحت العباءة البيزنطية عام 1185 ، وامتدت رقعة أراضيها من البحر الأسود شمالا إلى البحر الأدرياتيكي جنوبا، قبل أن تتفكك إلى مدن وإمارات صغيرة متناحرة.

ولم يُعرف للروس أية مساهمات ملموسة في تكوين الحضارات الإنسانية ، كما لم يكن لهم كيان معروف أو اسم متداول إثناء فترة الفتوحات الإسلامية للأقاليم الشرقية في آسيا الوسطى والقوقاز. وأقدم المعلومات التي دونها العرب في كتبهم، حول الروس وبلادهم، تعود إلى بداية القرن الثالث الهجري، وقد كان ذلك من خلال الرحالة العرب الذين جابوا مناطق القارة الآسيوية، ومنها روسيا، في تلك الفترة، وتعتبر رحلة أحمد ابن فضلان (000 – بعد 310 هـ = 000 – بعد 922 م)، إلى روسيا في عام 309هـ/921م، والتي سجلها في مؤلفه الذي أطلق عليه اسم ” الرسالة ” من أهم تلك الرحلات. وجاءت هذه الرحلة في إطار سفارة تتآلف من جمع من القادة والجند والتراجمة، أرسلها الخليفة العباسي المقتدر بالله، إلى ملك الصقالبة (على ضفاف نهر الفولغا )، إجابة لطلب بلغار الفولغا الذين كانوا قد دخلوا حديثا في الإسلام، وبعثوا برسول منهم إلى عاصمة الخلافة يرجون إنفاذ من يفقههم في الدين، ويعرفهم بشعائر الإسلام.

وترجع أهمية رسالة ابن فضلان إلى كونها تعطينا أول صورة يمكن الاعتماد عليها عن روسيا، في العصور الوسطى .. وقال – الرحالة ابن فضلان – عن سكانها بأنهم أكثر خلق الله جهلا ، وهم على عكس جيرانهم من البلغار ، فقد ظلوا على الوثنية ، وهم سفاكون للدماء ، مولعون بالحروب ، سرعان ما تنشب بينهم الحروب والنزعات الدموية ، وتتفشى فيهم السرقة ، ويكثر القتل ، حتى أصبح عادة شائعة عندهم ، وفي عرفهم أن الحكم النهائي للقوة ، فإذا احتكموا إلى ملكهم، ولم يقتنعوا بحكمه يطلب منهم المبارزة بالسيوف. ووصف ابن فضلان طقوس الوفاة عندهم ، فقال: أن الروس – سواء كانوا فقراء أو أغنياء – يحرقون موتاهم ، وقد جرت العادة أن يموت الرجل بمحض إرادته حالما تموت زوجته. أ.هـ

وكان الروس حينئذٍ عبارة عن دوقية صغيرة تعيش حول مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا الحالية ، وذكر عددها الرحالة العربي أحمد ابن فضلان .. بمائة ألف تقريبا. أما روسيا بمفهومها الحديث فلم تكن قد ظهرت بعد.

ولكن في عام989م ، حدث تحول جذري وخطير في حياة الروس ، ففي هذا العام ، اعتنق فلاديمير الكبير (980-1015) ، دوق كييف الروسي، المسيحية الأرثوذكسية، وفرضها بالقوة على شعبه، مما ساهم في انتشارها في الأراضي شمال البحر الأسود.

ومنذ عام 1054 ، عندما مات آخر حكام كييف، وقعت السهوب الأوكرانية تحت سيطرة الترك والقبجاق.

وفي القرن الثالث عشر انهارت روسيا، تحت ضربات التتار والمغول، بما في ذلك كييف، التي سقطت بأيديهم في ديسمبر1240.

ثم ما لبثت غير وقت قصير حتى أصبحت روسيا خاضعة لسيادة المسلمين، من خلال التتار ، الذين اعتنقوا الإسلام وتحمسوا له، وحكموا باسمه أمدا طويلا – وكانت في ذلك مثلها مثل بقية الإمارات في القوقاز وآسيا الوسطى – بل كانت دولة التتار تشمل جميع البلاد السلافية ( الصقالبة ) ، في تلك الفترة، أو بعبارة أخرى أغلب المناطق التي عُرفت فيما بعد بالاتحاد السوفييتي. وكان الخان التتري يفرض الجزية السنوية على الأمراء الروس. وكان الأمراء الروس تتفاوت أقدارهم لدى الخان، الذي كان له الكلمة العليا عليهم .وبلغ من سطوة المغول أن بارسلوف” دوق روسيا الأعظم أضطر أن يقسم يمين الولاء للأمير ” باطو” ، وأن يعلن هو وسائر أمراء الروس خضوعهم لسلطته. وفي عام 1328 استطاع أمير موسكو إيفان الأول أن يقنع الخان التتري ( أزبك ) بمنحه لقب الأمير فلاديمير العظيم ، نظير تحمسه وإخلاصه في جباية الجزية من الأمراء الروس.

والأهم من ذلك هو أن الروس حققوا تقدما كبيرا أيام المغول، وتدريجيا صاروا إدارة شبه مستقلة، وأزالوا الغابات لتوسيع الأرض الزراعية كما اشتغلوا بالتجارة والصناعة. وفيما عدا التطور في التاريخ والأدب والفلسفة والشعر ، نشأت صوفية أرثوذكسية توازي الصوفية الإسلامية. وكان التصوف، كما تذكر المصادر الغربية – بمثابة دين شعبي حماهم من اعتناق الإسلام.

وعندما آل أمر التتار إلى الضعف بشكل تدريجي ، ظهرت عدة إمارات مستقلة أهمها موسكو ، التي تمردت فيما بعد على حكم التتار ، فقامت الحرب بينها وبين دولة قازان التترية ، فوحد الروس جهودهم، وهزموا التتار عام 1380م، وامتد الصراع الدموي بين دولة المسكوف ودولة التتر، بعد ذلك قرابة مائة عام.

ونظرا لما تميز به الروس من طموح ومن شجاعة عسكرية، ولشغفهم بالحرب والإغارة والتوسع، وإيمانهم في ” أن الحكم النهائي للقوة ” كما تشير إلى ذلك المصادر العربية القديمة- وأيضا لوجود الرغبة الصليبية المجنونة التي تحركهم، و” صراع الغضب المشتعل بلهيب البغضاء والحقد بعد فتح القسطنطينية”، فقد انتهت حروبهم الطويلة مع التتار، بإعلان استقلال موسكو عام1480 ، وذلك على يد إيفان الثالث (1462-1505)، وقد صارت موسكو روما الثالثة بعد سقوط القسطنطينية.

وكان التتر حينئذٍ قد ضعفوا بسبب منازعتهم الداخلية، وصاروا أعجز في مواجهة التحدي. وكانت الجمهوريات التي أقامها القوزاق في المناطق الحدودية لمنافسة موسكو ووارسو قد اختارت الانضواء تحت راية الروس. وكان القوزاق – وهم مسيحون أرثوذكس ، بل ومن السلاف على الأرجح – رأس حربة في يد القياصرة الروس خلال حملاتهم الصليبية ضد بلاد القوقاز المسلمة.

وجاء إيفان الرهيب – المعاصر للسلطان سليمان القانوني – فوحد روسيا واتخذ لقب القيصر ، وجعل موسكو عاصمة له، وذلك في منتصف القرن السادس عشر ، ثم أعاد تنظيم جيشه مستفيدا من التقنية الأوروبية التي أنتجها عصر النهضة ، فشن حملة صليبية على جيرانه المسلمين ، واستولى خلالها على قازان عاصمة التتر – وقضى على دولة التتار على ضفاف نهر الفولجا عام 1556. وقد عرُف هذا القيصر بالرهيب لقوة اندفاعه خارج الدائرة الروسية، بصورة بثت الرعب والخوف في قلوب جيرانه. وقد ساهم هذا الصعود والتقدم الروسي في وقف توسع الإسلام ، في وسط شرقي السهوب، وخسر المسلمون أول موقع لهم ، خسارة جدية ، وكان ذلك بداية اندحارهم ، في وقت كان العثمانيون يتقدمون في الجهات الأخرى، ويبسطون سيطرتهم في مناطق مختلفة في هنغاريا ومحيط البحر الأسود، وصولا إلى حصار فينا الثاني عام1683.

ومنذ هذا التاريخ بدأ الصراع بين المسلمين والروس يأخذ أبعادا خطيرة، ودخلت روسيا التي فرضت نفسها كحامية للأمم الأرثوذكسية المسيحية وللشعوب السلافية، كطرف ثالث في معاداة الدولة العثمانية الممثلة للمسلمين، وفي الحرب عليها، وذلك بجانب كلٍ من: الصلبيبة الأيبيرية في المتوسط والأطلسي والهندي ، والدولة الصفوية الفارسية الشيعية في إيران.

وكان الروس منذ سطوع نجمهم على مسرح الأحداث ، شديدون جدا على العثمانيين وأتبعوا معهم بشكل سافر سياسة معادية لا هوادة فيها، وشنوا عليهم الحرب تلو الحرب في كل فرصة تسنح لهم، وعملوا بشتى الوسائل على إضعاف دولتهم وتقويضها. وكانت للدولة – الروسية – موارد بشرية كبرى مكرسة لخدمتها ، بالمقارنة مع أوروبا المنقسمة على نفسها والمشرذمة.

جذور مأساة المسلمين في القوقاز

وفي ضوء ما سبق يمكن القول أن جذور مأساة المسلمين في آسيا الوسطى والقوقاز وشبه جزيرة القرم ، والتي هي أساسا من صنع الصليبية الروسية الحاقدة ، ترجع إلى القرن السادس عشر الميلادي. وسيقتصر حديثنا هنا حول مأساة المسلمين في القوقاز.

ففي النصف الثاني من هذا القرن شرع إيفان الرهيب – العقل المدبر للإمبراطورية الروسية – بالتمدد نحو الجنوب بهدف السيطرة على إقليم القوقاز الجبلي ، والوصول من خلاله إلى المياه الدافئة في بحر قزوين والبحر الأسود، ثم إلى جورجيا، الدولة المسيحية في القوقاز الجنوبي ، والتي وقعت حينذاك بين مخلبيّ إيران وتركيا.

فقد رأت جورجيا حينذاك الاستعانة بشقيقة الديانة ( روسيا (ـ. وجاء الرد الروسي سريعاً وبترحاب من إمبراطورية، في طور التمدد والصعود، وطالما أغراها التوغل نحو الجنوب. غير أن تتر القرم حالوا دون ذلك بتصديهم للجيوش القيصرية، بل ومطاردتها إلى موسكو.

وقد ظهر خلال تلك الفترة، أن الروس لم يكونوا قادرين بعد على تحقيق مشاريعهم التوسعية في القوقاز، الواقعة ضمن الجبهة الجنوبية، نظرا لقوة الدولة العثمانية،قلعة اعتصام المسلمين آنذاك، وموقفها الداعم للقوقازيين، الذين كانوا عصب الجيش العثماني ( الانكشارية ) الذين اشتهروا بالبسالة والشجاعة والكفاية القتالية، قبل أن تتحول هذه المؤسسة العسكرية بعد عدة قرون إلى قوة طاغية تقض مضاجع الخلفاء ، فيتم حلها بقسوة عام 1826 . هذا من جهة. ومن جهة أخرى لوجود مشاريع توسعية، وخطط عسكرية أخرى أمام الروس على الجبهتين الشمالية والغربية أي نحو أوروبا. وقد اضطرهم ذلك إلى وقف حملاتهم العسكرية على القفقاس لأكثر من مائة عام.

وبعدما بسطت روسيا سيطرتها على مجمل سيبيريا، واستعادت أوكرانيا في القرن السابع عشر، وبعد أن سيطر بطرس الأكبر علي جزء من بلاد السويد أو ما يعرف حالياً ببلدان البلطيق ( ليتوانيا واستونيا )، أخذت موسكو تتطلع نحو الجنوب، سعياً منها لتحقيق حلمها في الوصول إلى المياه الدافئة ، ومراقبة مضائق البوسفور والدردنيل، والسيطرة على تجارة المرور.. من جهة . ومن جهة أخرى السيطرة على الممر الطبيعي للتجارة البرية بين الصين وأوربا، وبين الهند وأوربا بشمال القفقاس. وهذا فضلا عن العامل الديني الذي يقع في مقدمة تلك العوامل، والمتمثل في النزعة الصليبية للروس لإخضاع الشعوب والقبائل القوقازية المسلمة، وفرض الأرثوذكسية المسيحية عليها.

ومن هنا كانت الحملة الصليبية الروسية الكبرى في عهد القيصر بطرس الأول (أو بطرس الأكبر( عام 1722 على منطقة القوقاز، والتي استولى خلالها الروس على الدربند وسائر سواحل الخزر الغربية، وقد كان القوزاق الأرثوذكس خلال هذا الهجوم يمثلون قوة هامة في الجيش الروسي . جاء ذلك في وقت كانت الخلافة العثمانية منشغلة بحروبها وسط أوروبا ، إلا أن نادر شاه صاحب فارس، – الذي حل مكان السلالة الصفوية، بعد الإطاحة بها عام 1736 وأعلن التحول عن تفرد المذهب الشيعي في إيران معتبرا الشيعة مذهبا خامسا – غزا هذه البلاد، ورد الحملة الروسية على أعقابها ، واسترجع أكثر البلاد التي احتلها الروس سنة 1735 م.

لكن الروس لم يتوقفوا عن محاولات إلحاق هذه البلدان بالقوة، رغم هذا الإخفاق ورغم الهزائم التالية التي منيوا بها على أيدي أبناء هذه البلدان. إلا أنهم بعد سنة 1735 ، وبعد موت القيصر بطرس الأكبر اضطروا إلى التخلي عن شمال القفقاس مؤقتا ، ولعدة سنوات.

كما تخلي العثمانيون بدورهم- وقد بدأ الضعف في دولتهم- عن هذه المنطقة بالمقابل في اتفاقية بلغراد مع روسيا سنة 1739.

وغداة الحرب الروسية – التركية عام 1769، عاودت الجيوش الروسية حملاتها الانتقامية على القوقازيين، لوقوفهم إلى جانب الأتراك (العثمانيين)، تطلعا إلى الانعتاق من القيصرية ، وأملاً في المحافظة على هويتهم الإسلامية واستقلالهم الذاتي في إطار دولة الخلافة . ونجح الروس هذه المرة في السيطرة على المنطقة، ووصلت طلائع جيوشهم الجرارة إلي حدود الضفة الشمالية للبحر الأسود. وظهر الضعف في العثمانيين أكثر فأكثر ، فدمغوا عليه بخاتمهم في معاهدة كوتشوك قنيارجي في21يوليو 1774 ، التي تمكن الروس بموجبها ، من فصل القرم عن سيادة دولة الخلافة العثمانية، وإعلانها دولة مستقلة، تمهيدا للانقضاض عليها وضمها للإمبراطورية الروسية، وهو ما حدث بالفعل في أبريل 1783م (1198هـ) ،كما أعترف العثمانيون في الوقت نفسه باستقلال شمال القفقاس (منطقة القبرطاي).

وقد سجلت السنوات – التي تلت الحرب، وتلك الاتفاقية المخزية التي وقعتها الدولة العثمانية ، والتي رفعت روسيا دفعة واحدة إلى مصاف الدول القوية بعد إنجلترا وفرنسا، وأنزلت الدولة العثمانية من القمة إلى السطح – سجلت سيطرة قلقة وغير مستقرة ، لإمبراطورية القياصرة على شمال القوقاز، إذ أن كثيرا من الشعوب القوقازية المسلمة، لم تلق سلاحها ، ولم ترفع راية الاستسلام ، بل أبدت مقاومة عنيدة ودائمة للهيمنة الروسية على الإقليم ، ولم تبخل بالدم والمال ذيادا عن أرضها وعقيدتها، فكان أن وُضعت الخطط الروسية لأحد أمرين: إما تنصير مسلمي القوقاز أرثوذكسيا ، أو إخراجهم من الأرض!.

الإمام المنصور وحركة المريدين

وفي الواقع أن الروس لم يكونوا يريدون الأرض القوقازية بحد ذاتها، فأراضيهم واسعة وخالية وكثيرة الموارد والخيرات، ولكنها الروح الحاقدة المتعصبة والنزعة الصليبية العدوانية ضد هذه “الملة” الإسلامية الموجودة عليها، والتي كانت تثيرها الكنيسة الأرثوذكسية والأكليروس الذين كانوا قياصرة إلى جانب القيصر.والسياسة الروسية في هذا الميدان جزء من المخطط الاستعماري العالمي الصليبي للإتيان على الإسلام كله ودك قواعده. وكان من حسن حظ روسيا القيصرية أنها لم تكن مضطرة إلى ركوب البحر في توسعها الاستعماري كغيرها من دول أوروبا الغربية.

وفي هذه الفترة برز على ساحة الإقليم الإمام منصور أوشورماه الشيشاني (1748-1794 )، والذي رد على مخططات الروس للانقضاض على هذه البلاد ، وعلى محاولاتهم لتنصيرها ، وعلى أساليب القمع والطرد والتهجير القسري المنظم التي مارسوها، بإعلان الجهاد رسميا ضد الروس، داعيا القوقازيين إلى التوحد في الحرب عليهم، فالتف حوله الآلاف من الشيشانيين المخلصين والغيارى، الذين انتظموا في حركة المريدين المقاتلة، وهي حركة اقرب ما تكون إلى التصوف، لأنها تقوم على التقوى، والطهارة، والمساواة، والسمو الروحي.

وكان الإمام منصور أول من بدأ هذه الحركة، وهو أول قائد عسكري صوفي.

وقام الإمام منصور بتوحيد قوى القبائل القوقازية، وقاوم بشراسة المحارب الجريح، وأشعل الأرض تحت أقدام الروس ، وكان شعاره “تطهير النفس على أسس وقواعد الشريعة الإسلامية والدعوة إلى الحرية” ، وما لبث حتى توحد تحت رايته المجاهدون الشيشان والداغستانيون والشركس ، في انتفاضة شاملة في نهاية القرن الثامن عشر – بدءا من سنة 1783 – وكانت هذه أول هبة حقيقية وشاملة وموحدة ضد الروس-

وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن إلحاق هزائم متتالية بجيوش الإمبراطورة يكاترينا الثانية، التي كانت شديدة التعصب للمسيحية، وتم إيقاع تلك الجيوش في كمائن على مهاوي الوديان، وتكبيدها أكبر الخسائر، واستطاع – الإمام منصور – أن يفني سَرية روسية كاملة على نهر سونجا عام 1785م، وتم طرد الروس من معظم الأقاليم.

وتجاوبت الدولة العثمانية ممثلة في السلطان الغازي سليم الثالث (1203-1222هـ/1788-1807م) مع هذه الانتفاضة، فأرسلت سنة 1790 بطال باشا واليا، فتابع القتال إلى أن التمع له الذهب الروسي، فإذا به يتوقف قبل سحق الروس، ثم يأخذ 800 كيس من الذهب ويهرب إليهم.. ولكن هذه الخيانة- ويا للعجب- جاءت بعد أن أسر الروس الإمام منصور، وأخمدوا الانتفاضة، وذلك بعد حوالي عقد من الجهاد والمواجهات الضارية التي سالت خلالها الدماء انهارا ، على سفوح جبال القوقاز الشيشانية والداغستانية، وكان مدادها عشرات الآلاف من المجاهدين.

وقد ألقى الروس القبض علي الشيخ المنصور قائد حركة الجهاد القوقازية، عام 1791 ، وأودع السجن في احدي القلاع ، حيث توفي بعد ذلك بأربع سنوات، ليصبح البطل الشعبي الأول للشيشانيين.

ومع ذلك تابعت المقاومة القوقازية مسيرتها ولم تتوقف، وصار الصراع في المنطقة كلها صراعا دينيا سافرا. وهو يأتي في إطار العراك الدامي الناشب من قديم بين النصرانية والإسلام . كانت شعارات المريدين المتصوفة شعارات حرب:

– من لا يحارب الروس فمصيره إلى جهنم.

– الجنة تحت ظلال السيوف

– أمة محمد لا تعيش تحت ظل الكفرة!

فأقام الروس مقابلها حركة الزباروز التي جعلت شعارها حربا أشد وأكثر عماية:

– أفضل الأديان النصرانية

– يجب قتل كل قفقاسي لا يقر بذلك

– وهذه أولى مهمات الزباروزي!

يرملوف الجزار المتعطش للدماء

وإذا شغلت روسيا عن حروب القفقاس في مطلع القرن التاسع عشر بسبب انشغالها بحروب نابليون، وهدأت المنطقة بعض الهدوء، فقد عاد الشر يجتر حين أضحى نابليون منفيا في سانت هيلانة! وعاد الروس إلى عدوانهم عليها ، وقد اتخذ مشروع القياصرة لغزو القوقاز ، وعلى رأسها الشيشان، في هذه الفترة كل أبعاده بقيادة شخصية ما تزال حتي اليوم تمثل الرمز لهذا الغزو، وهو الجنرال الكسي يرملوف الذي عيّن عام 1816 نائباً للملك، وقائداً عاماً للقوقاز. وأعد له القيصر جيشا كبيرا وأعطي إشارة البدء بعملية الإبادة في القفقاس. وقد تزامن ذلك مع التدهور الكبير الذي لحق بدولة الخلافة الإسلامية العثمانية في الداخل، واشتداد وطأت الحملات الصليبية على أطرافها من الخارج.

ونشبت ثورة عام 1818 وقمعت بالعنف والمجازر والعقوبات الجماعية، التي نفذها الروس بقيادة الجنرال يرملوف. وخلال هذه الفترة، شنت الجيوش الروسية تحت إمرة هذا الجنرال المتعصب، أقذر حروب القيصرية وأشدها تعصبا وحقدا ضد القوقاز ، وخصوصا ضد بلاد الشيشان، قلعة الجهاد العتيدة والعنيدة على الدوام ، واحتلوا بالقوة أقساما منها سنة 1822 ، واعتبر الروس هذا القائد “بطلاً قومياً” أما الشيشانيون فوصفوه بأنه “جزار متعطش للدماء” ، فقد أرتكب كثيرا من الفظائع ، من هدم القرى على رءوس أهلها ، إلى إحراق الحقول والغابات ، إلى قتل الأئمة واكتساح الناس بالسيف والرصاص وهم خروج من الصلاة ، إلى بطون تبقر عن الأجنة، إلى الأعراض المباحة.. إلى ممارسة عمليات الإبادة الجماعية والتهجير القسري، إلى التمثيل بالجثث، إلى سحق لإنسانية الإنسان، وإذلاله. فيما كان العسكريون الروس يتبجحون بمفهومهم للحرب علي غرار الجنرالات المنحطين. إذ قال احدهم ذات يوم:” الآن وقد انتزعنا منهم أسلحتهم لم يبق لنا سوي أن ننتزع سراويل نسائهم”

وهذه أصبحت فيما بعد هي القاعدة المتبعة من قبل الروس للرد على أية تمرد أو انتفاضة في القوقاز.

وأثناء ذلك بني الروس قلعة غروزني التي كانت تدعي غروزنايا ، أي الرهيبة في موقع ست قري شيشانية، كانت قد مُسحت من الأرض انتقاما من أهلها. وينسب إلى هذا الجنرال الروسي قوله “إنني أرغب في أن يبث أسمي الرعب، وأن يحمي هذا الرعب الحدود بكفاية أشد من القلاع”

وعلي اثر هذه الأعمال القمعية والوحشية اندلعت الانتفاضة من جديد بين عامي 1824- 1825، فرد عليها الروس بحملة من التقتيل، والتنكيل دون هوادة، كعوائدهم السابقة.

ولكن كل هذه الممارسات الوحشية وعمليات القتل الجماعي لم تزد القوقازيين سوى إصرارا على الثورة وعلى التضحية والفداء تحت راية الإسلام، دين العزة والكرامة، والذي كان دوما هو المحرك الأساسي للثورة، أما العامل القومي – الذي يركز عليه المؤرخون العلمانيون – فلم يكن سوى عامل ثانوي، بدليل قيادة الأئمة والمشائخ لتلك الثورات.

وفي عام 1828عمَّت الثورة سائر أرجاء القفقاس، واستمرت مقاومة المسلمين للروس في داغستان تحت زعامة كل من الإمام غازي محمد الداغستاني (1793-1832) والإمام حمزات، والذين ما لبثا أن استشهدا في ميدان المعارك ، أحدهما تلو الآخر ، بعد ذلك بسنوات قلائل.

الإمام شامل الداغستاني ينهض

وآنذاك لمع نجم بطل جديد للمقاومة القوقازية. بطل جديد لم تشهد الساحة القوقازية مثيلا له من قبل.. إنه الإمام شامل، البطل القوقازي الأسطوري، الذي قاد النضال وحمل راية الجهاد ، ضد الغزاة الروس، بدءا من عام 1834 ، انطلاقا من معقله الجبلي في داغستان. وكان قبل ذلك قائداً لإحدى الفرق التي أخذت على نفسها تأديب العصاة الخارجين على أحكام الدين . وشارك رفيق دربه الإمام غازي مولا في انتصاراته على القوات الروسيّة. وتصدى معه للحملة الروسيّة بقيادة البارون (فليامينوف) وأصيب بجراح نازفة في صدره وانسحب إلى الغابة بعد استشهاد الإمام غازي مولا. ويروي – رسول حمزاتوف ، شاعر داغستان المشهور– ” حكاية متوارثة تقول إن الأعداء أحاطوا بشامل في أيام شبابه، وبمعلمه القاضي محمد في فج غمرا، وفي قلعة حربية. قفز شامل من عَل على حراب الأعداء، وشق بخنجره دربًا له. فقد جرح خمسة عشر جرحًا آنذاك لكنه هرب مع ذلك والتجأ إلى الجبال”.

وقد أثبت الإمام شامل كفاءة لا نظير لها في قيادة الجهاد والمجاهدين، وفي لبها حركة المريدين الصوفية، فتعاظمت قوة الانتفاضة على يديه، واتسعت أكثر، وحققت الانتصارات الباهرة على الأعداء الروس، الذين ألقى الله الرعب في قلوبهم.

وكان القتال قد اشتد، وازداد الروس طغيانا وضراورة بعد معاهدة أدرنة سنة 1829 ، التي أنهت حرب الأفلاق والبغدان في رومانيا ، وكان من بنودها تسليم شمال القفقاس للروس!! حيث أُجبر العثمانيون على التخلي عن هذه المنطقة الإسلامية لمصيرها، استرضاء للروس الذين كانوا أشد الأعداء ضرواة ضد العثمانيين.

وعند ذلك حشدت روسيا 125 ألف جندي لخنق أربعة ملايين مسلم – هم مجموع سكان القوقاز في تلك الفترة – في قراهم الجبلية. وهرع الزعماء القوقازيون يناشدون السلطان العثماني المعونة، وعبثا كانت المناشدة والاستنجاد، فقد كانت الدولة العثمانية يومئذٍ في قمة الضعف والخضوع، وكانت عبارة عن رجل مريض عاجز عن الحركة، وعن حماية نفسه، فكيف يستطيع أن يمد يد العون لغيره؟ بينما كان سائر المسلمين في سبات أو مشغولين بمشاكلهم وشئونهم الخاصة، يحاولون استخلاص أنفسهم وحرياتهم من براثن استعمار آخر ابتلوا به من ناحية الغرب.

فكان على البلاد أن تتحرك لحماية نفسها بنفسها. وتمكن المجاهدون بفضل الله أولا ، ثم بفضل قيادة الإمام شامل – تمكنوا من احتواء هذا الهجوم الكبير ، وبعد ذلك تمكنوا من الرد بصلابة وشجاعة على الحملات التأديبية الدموية التي كان القياصرة الروس يشنونها على شعوب المنطقة. وأذاق شامل وأتباعه الروس القياصرة الذل والهوان، وهزموهم مراراً وتكرارا في أنحاء تلك البقاع المثلجة الغابية المختنقة بالصخور والأودية المرعبة.

هذا وروسيا القيصرية آنذاك من القوى العالمية في الطبقة الأولى، وكانت متفوقة في العدد والعدة، وفي أوج عنفوانها وغطرستها، وكانت قد هزمت «نابليون» وتقدمت حتى دخلت باريس قبل ذلك بسنوات فقط أي سنة 1816م كما كانت قبل ذلك قد هزمت الدولة العثمانية وسمع هدير المدافع الروسية قرب البوسفور والدردنيل، ووصلت طلائع قواتهم إلى مشارف اسطنبول.

وبعد أن استمرت الحرب سجالا لعدة سنوات، شنت جيوش القيصر في عام ١٨٣٧م ، هجوماً خاطفاً لسحق حركة المقاومة، التي يقودها الإمام شامل، في داغستان، فكان لها هو وأتباعه بالمرصاد، وكان شامل هو الشغل الشاغل للقوات الروسية، وبذلوا الأموال الكثيرة لشراء الخونة والأعوان والجواسيس ، من أجل تسهيل مهمة القبض عليه، ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إليه، حتى دل عليه بعض أمراء الداغستان الخونة، فحاصره الروس بقوة ضخمة فيها مدافع ، دكوا بها القرى دكا، لكن شاملاً استطاع الهرب رغم ذلك. وتمكنت القوات الروسيّة من الاستيلاء على القرية التي كان يتحصن فيه الإمام شامل (أشيلطا) وتم إحراقها بعد مجزرة رهيبة.

وكان قائد الثورة شامل يأمل في دعم ما من العالم الإسلامي، لاسيما من “دولة الخلافة” الإسلامية في الآستانة ، ولكنها كانت عاجزة أو غير راغبة في مساعدة شامل في ثورته لأنها كانت حينئذ متحالفة مع عدوتها وعدوتهم اللدودة روسيا القيصرية ضد محمد علي باشا والي مصر الذي أعلن الحرب عليها ، وأنزل بجيوشها عدة هزائم قاسية ووصلت جحافله إلى حدود اسطنبول نفسها ، في ربيع عام 1833. ومن هنا لم ترد استنبول على الرسالة أو المناشدة الأولى التي وصلتها من الإمام شامل في 1839م، ولا على الثانية التي وصلت في 1840م.

وكانت القوة الإسلامية الثانية في ذلك الوقت والتي كان يُنتظر منها دعم حركة الجهاد القوقازية ضد الروس، هي قوة محمد علي باشا ، الذي تسيطر قواته على مصر وبلاد الشام والحجاز . وهذا الأخير أظهر اهتماما كبيرا بمنطقة القوقاز، وتفاعلا مع مقاومتها، وحاول مد صلاته ونفوذه إلى هذه المنطقة، وراء الدولة العثمانية. ومن هنا فقد ظهر آنذاك في القوقاز “رسل” و”رسائل” لمحمد علي، ومن بين هذه الرسائل واحدة موجهة إلى “كل علماء وأعيان الداغستان” يرد فيها ما يشبه الأوامر والتعليمات لهم ، وكأنه قد أصبح حاكما أعلى للمسلمين حقيقةً، فقد جاء في هذه الرسالة : “الآن أوجه أسلحتي ضد روسيا، ولذلك أعين شامل أفندي حاكماً عليكم. وأطلب إليكم أن تقدموا له الطاعة الكاملة وأن تقدموا المساعدة إلى حملاتي، وإني أعدكم أن أرسل لكم جزءاً من قواتي، أما أولئك الذين سيتخلفون عن تنفيذ أوامري فستقطع رؤوسهم مع رؤوس الكفار”.

أما في رسالته إلى “كل علماء وأعيان الشيشان والداغستان” فيخبرهم فيها “لدي تحت قيادتي قوات كبيرة وعندما أقودها في نهاية الشتاء وبداية الربيع إلى حدود جورجيا عليكم أن تكونوا مجتمعين عند نهر ترك Terek الأعلى، وسنقوم معاً في فتح داغستان واستعادة اصطراخان ودربند وآزوف وطرد الكفار من أراضي المسلمين”.

وقد يكون محمد علي باشا – المعروف بانتهازيته وطموحه الواسع وحسن استغلاله للفرص، حاول الاستفادة من هذه الثورة القوقازية، وتوظيفها للانتقام من الروس الذين وقفوا إلى جانب العثمانيين، وأرسلوا قوة ضاربة إلى ضواحي استنبول لحماية السلطان منه. وقد يكون فعل ما فعل، للمزايدة على دولة الخلافة العثمانية التي تخلت عنهم وتقاعست عن نصرتهم، بل وتحالفت مع عدوتها اللدود وعدوتهم روسيا القيصرية ، ومن أجل كسب تعاطف الشعوب الإسلامية في حربه الشرسة ضدها، وإظهار نفسه كحامي للمسلمين، وكقوة مدافعة عنهم ضد الكفار، بدلا من السلطان العثماني.

وأنا شخصيا أميل إلى القول بالرأي الثاني. ذلك أن العلاقات الدبلوماسية بين محمد علي باشا وروسيا القيصرية، بقيت على ما هي عليه، ولم تنقطع خلال هذه الفترة. والدليل على ذلك أن القنصلية العامة الروسية في مصر سنة 1835 ” كانت أهم سفارات روسيا في الشرق كله”.

وبغض النظر عن حقيقة نوايا محمد علي باشا، تجاه ثورة القوقازيين ومدى صدقية وعوده لهم، فإن تلك الوعود وتلك الرسائل، قد أدت إلى تقوية الأمل في نفوس القوقازيين، وإلى ارتفاع شعبية محمد علي بينهم، وإلى استثارة مشاعرهم الدينية والقومية وزياة وتيرة التحفز للثورة ضد الروس. وهذا ما أظهرته التقارير الروسية في ذلك الوقت، فقد أظهرت تلك التقارير أن تلك المناطق (الشيشان والداغستان) مستعدة لـ “انتفاضة عامة لصالح الباشا المصري لدى أول حركة لإبراهيم باشا”.

بيد أن هزيمة محمد علي أمام القوات الأوربية العظمى في الشام في خريف 1840 ، وإرغامه على الانسحاب إلى مصر ، والقبول بها ولاية وراثية في 1841 ، قد حجّمت كثيراً من طموحه، ونجم عنها تبخر أمل الشعوب القوقازية المسلمة التي كانت تنتظر منه المساعدة.

انتقال القيادة إلى الشيشان

وبعد سقوط أشليطا، معقل المقاومة في داغستان ونتيجة لاحتدام الخلاف والتنافس بين القبائل والقوميات، وما أكثرها في الداغستان، حيث يعيش في داغستان لوحدها ، أكثر من ثلاثين مجموعة عرقية- فقد قرر الإمام شامل نقل مقر قيادته إلى بلاد الشيشان، المجاورة لها ، فسار إليها في فلول أتباعه، فهي صالحة للمجابهة الطويلة لوعورتها، ولشجاعة أهلها الشديدة، واعتدادهم بأنفسهم ، ولتدينهم وتحملهم مسئولية الدفاع عن الإسلام، منذ أن هداهم الله إليه. وقد شهد لهم بذلك الروس (خصومهم التاريخيون) فقالوا عنهم أنهم “فرنساويو القفقاس، سريعو الخاطر، أذكياء بالفطرة.. مرحون، قدر ما هم مقاتلون.. ومعتدون بأنفسهم”. وقد اٌستقبل شامل في الشيشان أحسن استقبال. ” والشيشان هو اسم أطلقه الجيش الروسي على هذا الشعب نسبة لاسم قرية تقع على نهر أرجون جنوب شرق موضع مدينة جروزني الحالية؛ حيث وقع أول صدام مسلح بين الجانبين. أما الشيشانيون فيسمون أنفسهم “ناختشاي”، ويطلقون على أرضهم اسم “أتشكيريا” وتعني الأرض الداخلية”.

والشيشانيون شعب أصيل من شمال القوقاز، وكانوا يشكلون مجتمعاً قبلياً يتميز بالتماسك والجماعية، بمعنى الانتماء إلى الجماعة، والمساواة وصلة الرحم، حتى أطلق عليه البعض اسم ” الديموقراطية الجبلية “. وكانت عشائر هذا المجتمع ذات نفوذ قوي، ويشرف عليها مجالس من الشيوخ، وكانوا ممتلئين حماسة لقتال الروس دفاعا عن الإسلام، ولكنهم لم يكونوا ينقادون لبعضهم البعض. ولما حل الإمام شامل بينهم، انحلت هذه العقدة، فقد اتفقوا جميعا على مبايعته، وأعلنوه إماماً عليهم، له حق السمع والطاعة والجهاد معه في سبيل الله تعالى.

وهكذا تم استئناف الجهاد من جديد، بصورة أشد من الأولى ، وبدأت حروب العصابات وعمليات الكر والفر ضد الروس، وأثار ذلك ضجة واسعة في بلاط القيصر الروسي ، التي ظن أن المعركة قد حٌسمت لصالحه ، بعد أن هُزم المجاهدون في الداغستان.

وبين عامي1842 و1845 ، تعرض الإمام شامل في معقله الجبلي الجديد ، الذي كان يتحصن فيه هو وأتباعه- واسم هذا المعقل دارجو – تعرض لحملتين كبيرتين من قبل دولة القياصرة الروس، فقد جاءت الحملة الأولى باسم حملة “دارجو الأولى” عام 1842م ، ودارت أشرس معركة بين قوات الإمام شامل، والجيش القيصري الروسي ، وقد انتهت بهزيمة نكراء للجيش الروسي الغازي، وبفشلٍ ذريع للحملة وحتى قبل أن تبلغ هدفها.

ثم جاءت حملة “دارجو الثانية” عام 1845م، والتي بلغ قوامها 30 ألف مقاتل ، فتمكنت هذه الحملة من الوصول إلى دارجو، وتسويتها بالأرض بقصفها بالمدافع الضخمة، دون أن تجابه بمقاومة كبيرة ، ولكن ذلك لم يكن سوى فخا نصبه الإمام شامل للحملة، ففي طريق عودتها انقض عليها المجاهدون من فوق أشجار البلوط انقضاض الصقور على فرائسها، ورموا جثث القتلى الروس أشلاء مبعثرة على صخور الجبال، وفي منحدرات الوديان الثلجية، ولم يعد منها سوى أقل من خمسة آلاف، ونصفهم جرحى. وقتل قواد روس كبار في المعركة. وتمكن شامل من فتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال، وغنم منها العديد من المدافع ، وأعتادا حربية ومؤنا وافرة ، وأخذ عددا كبيرا من الأسرى.

ونتيجة لذلك اضطر الروس إلى الانسحاب من بلاد الشيشان، ومن مناطق شاسعة من داغستان، بعد أن تحولت جبالها الوعرة إلى مقبرة للجيوش الروسية على يد الإمام شامل وأتباعه. ولم تؤد حملاتهم تلك إلا إلى زيادة في صلابة عود شامل بدلا من أضعافه.

دولة شعوب القوقاز الموحدة

وقد أدت حرب العصابات التي قادها الإمام شامل، وهي واحدة من أطول الحروب في التاريخ الحديث، إلى إجلاء الروس عن جميع البلاد إلا في بعض مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية، مما سمح لهذا القائد بإقامة ملامح دولة قوقازية لأول مرة في التاريخ، وهي دولة شعوب القوقاز الموحّدة، التي استأثرت بدعم وتأييد قبائل القفقاس جميعا، وضمت شمال وشرق القفقاس تحت راية المريدية وبقيادة الإمام شامل. وقامت على أساس قوانين الشريعة الإسلامية، وأقام الإمام شامل محاكم شرعية في كافة الجهات التي تقع تحت سلطانه، ومن هنا عرف عهده باسم (عهد الشريعة). هذا في نفس الوقت الذي كان يقوم فيه الإمام شامل ببناء القلاع والحصون، ومصانع السلاح والبارود، وإرسال المندوبين والنواب لمتابعة الأعمال، ولإستثارة الناس في كافة المدن والقبائل للجهاد ضد الروس، فأرسل قائدين من عنده: محمد أمين وسليمان يمثلانه لدى بعض القبائل الشركسية الكبيرة سنة 1848..كما بعث وفدا ليمثله في مؤتمر باريس الذي عُقد في أعقاب انتهاء حرب القرم. وغدا شامل شخصية أسطورية، وطبقت شهرته جميع أنحاء أوروبا وهو ما جعل كارل ماركس (1818-1883) ، يشيد بالمقاومة الهائلة الباسلة التي أظهرتها هذه الشعوب المسلمة المعزولة ، ويضرب بها المثل، قائلا: « انظروا ماذا يستطيع شعب يطلب الحرية أن يفعل، شاهدوا هذه البطولات يقدمها هذا الشعب رغم قلة قدراته، من أجل الحفاظ على حريته، عليكم أن تأخذوا العبر منهم«.

وأصبح شامل ودولته على مدى عقود جزءاً من الحقائق الجيوسياسية والمؤثرة في مصائر الأحداث في المنطقة، فرض على الروس أخذه في الحسبان.

وعندما اندلعت حرب القرم (1856-1853) ، بين الدولة العثمانية وروسيا، وقف إلى جانب الدولة العثمانية ، وساندها مساندة فعالة، ونشر قواته من بلاد الشيشان إلى جورجيا لدحر السيطرة الروسية. فاستشاط الروس غضبا من ذلك الاستعراض للقوة ، وزاد حقدهم على الإمام شامل ودولته ، ورأوا في تحركه هذا تحديا ومحاولة لفتح جبهة جديدة ضد الجيش القيصري ، لتخفيف ضغط الروس على الأتراك، وتشتيت قواتهم ، فأنزلوا قواتهم بعد عام إلى إبخازيا لمناوشة تحركات الإمام شامل، والإعداد للقضاء على قواته، إلا أن قواتهم لم تفلح في تحقيق هدفها.

بيد أنه بعد أن توقفت هذه الحرب ، التي هزمت فيها الجيوش الروسية أمام الجيوش العثمانية والإنجليزية والفرنسية المتحالفة ، أصبح الطريق مفتوحاً على مصراعيه أمام جيوش القيصر، لاجتياح إقليم القوقاز، واقتلاع الإسلام منه ، وشرع الروس يعدون العدة لحملة انتقامية كبيرة على الإمام شامل للقضاء عليه، ولتحطيم دولته القوقازية، للدور الذي اضطلعت به في تلك الحرب إلى جانب الأتراك – وكان للقوقازيين دورا مشهودا في تلك الحرب إلى جانب الجيوش المتحالفة، كما كانوا دوما وقودا للمعارك والحروب المستمرة بين الروس والعثمانيين ، وتعرضوا إلى حملات القمع والإبادة الجماعية من قبل الروس بسبب موالاتهم للأتراك، وتمسكهم بعقيدتهم وهويتهم الإسلامية.

وأثناء ذلك كان الإمام شامل منشغلا ، بتأديب بعض الشركس من القبرطاي، الذين تقاعسوا عن نصرته، ولكنه خسر حملته عليهم ، كما فت في عضده تخلي بعض أصحابه عنه وانضمامهم إلى الروس إما بدافع الحسد أو من أجل بريق الذهب الروسي، ولنفور بعضهم من القسوة التي كان يتعامل بها شامل معهم أحيانا.

فقد كان شامل يحاول لم الشمل القوقازي كله ومن ضمنها قبائل الشركس، ولكن ذلك لم يجد نفعا، لأن الانجليز كانوا قد تمكنوا من التسلل إلى هذه القبائل، وأصبح لهم نفوذ على زعمائها. كما تمكن الروس بدورهم من استقطاب وتحييد الكثير من القوقازيين من خلال تقديم الإعفاءات لهم، أو من خلال إطلاق سراح أسراهم من السجون ، أو من خلال سياسة الترغيب واللين والرفق التي مارسوها معهم.

التواطؤ الدولي ونهاية عهد الشريعة

ومن المفارقات أن يكون على رأس الأمراء المنشقين والمنضمين إلى الروس هو الحاج مراد، الزعيم الروحي والسياسي لقبائل الداغستان، وحليف شامل الوفي، وذي السجل الجهادي الرائع في التصدي للقياصرة، والرجل الثاني بعد الإمام شامل. وذلك نتيجة لاختلافه مع الإمام شامل على جدوى الكفاح ” حتى الموت ” حيث كان شعار الإمام شامل. وأيضا احتجاجا على استخلاف شامل لولده من بعده. ويعتبر السبب الثاني هو القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى استحكام العداء بين قائدي مسيرة الجهاد.

وأيا كان الأمر فإن المهم أن هذا الانشقاق كان ضربة قوية وقاصمة لحركة الجهاد.

هذا فضلا عن وقوع الحركة الجهادية في هذه المنطقة ضحية للتسويات الدولية التي تمت في معاهدة باريس التي وقعت بعد انتهاء حرب القرم. إذ لم يهتم بقضيتهم أحد، ولم يأت أحد عنهم بكلمة، ولا حتى الدولة العثمانية ، وذهبت سدى كل التضحيات الجسيمة التي بذلوها ، في تلك الحرب إلى جانب العثمانيين والإنجليز والفرنسيين أملا في الاستقلال. وحين ُسئل المندوب الإنجليزي عن نصيبهم، من هذه الحرب قال: لا يمكن أن نكون مسلمين أكثر من المسلمين أنفسهم!

وما لبث القيصر الروسي الكسندر الثاني الذي تولى العرش خلفا لنيقولا الأول، حتى حشد جيشًا قوامه 280 ألف مقاتل ، جعل على رأسه الجنرال بارتنسكي الخبير بالشأن القوقازي ، وزوده بالأموال والسلطات الكافية، ووجهه إلى المنطقة لسحق مقاومتها إلى الأبد– بعد أن تركت مرة أخرى لمصيرها – .

قام هذا القائد بتطويق منطقة القوقاز برمتها، وعزلها تماما عن تركيا وإيران، وعمل على إغداق الأموال على ضعفاء النفوس من زعماء القبائل، فاكتسب بذلك ولاء العديد منهم، أو أمن جانبهم على الأقل، كما أتبع لأول مرة سياسة متوازنة تتسم باللين والرفق مع السكان، ثم بعد ذلك كله بدأ قسم كبير من الجيش الروسي هجومه الكاسح من ناحية الشمال ، وتقدّمت الكتائب الروسيّة ببطء في الجبال والمواضع المكشوفة من الغابات، مستهدفة بصورة رئيسية، بلاد الشيشان ، القلب النابض لحركة المسلمين الجهادية، فتصدت القبائل الشيشانية بقيادة الإمام شامل لهذا الهجوم ببسالة، ونشبت بين الطرفين العديد من المعارك الضارية التي شارك الإمام شامل في القتال فيها بنفسه. ولم تنكسر المقاومة إلا بعد حوالي عامين من الكر والفر، واستطاع الروس أخيرا أن يلحقوا الهزيمة بالإمام شامل وجيشه بشكل نهائي وحاسم في أبريل عام 1859، وحاصرته قواتهم عدة مرات، ولم يكن قد تبقى حوله سوى خمسمائة من أتباعه، واستمرت في تضييق الخناق عليه حتى أطبقت عليه، قوة روسية مكونة من حوالي أربعة عشر ألف جندي في كوينب (Gunip ) ، شمالي داغستان، آخر معاقله، بعد أن كان قد تقلص عدد أتباعه إلى حوالي مائة، وبعد أن نفد كل ما لديه من مؤن وسلاح. وهنا رأى شامل إمام المريدين، ونتيجة لضغط الهجوم الروسي الثقيل، وبسبب التعب والإرهاق وتلبد الأجواء من حوله، وعدم وجود أية إمكانية للهرب ، رأى أنه لم يعد ثمة من خيار، إلا الاستسلام، وهو الخيار الذي رفضه أكثر من مرة قبل ذلك ، فاستسلم للروس في 6 أيلول ( سبتمبر ) سنة 1859، نزولا على إرادة أصحابه، ولكن القائد محمد أمين، ممثله لدى قبائل الشمال القوقازية، استمر هو وأتباعه في القتال لمدة خمس سنوات بعد ذلك ، قبل أن يضطر محمد أمين بدوره إلى الاستسلام عام 1864 .

وكان ذلك أمرا متوقعا، حيث لم يكن هناك تكافؤ بين رقعة صغيرة من الأرض وقبضة أقوام قليلة، لا تتلقى أية مساعدة خارجية من العالم الإسلامي ، وبين الإمبراطورية الروسية في اتساعها ومواردها، وجيشها الذي كان قد صار جيشا حديثا في تلك الفترة يزيد على مليون ونصف المليون.. أي أكثر من المقاومة الشركسية كلها بأضعاف مضاعفة.

وهكذا نجح الإمام شامل رغم قواته القليلة التي لم تكن تبلغ ثلاثين ألف مقاتل، ورغم قلة موارده ، نجح في مواجهة الإمبراطورية الروسية على مدى 35 سنة، من عام 1825 حتى العام 1859″..

وحينئذٍ انقلب الروس وحوشا في جلود إنسانية، فقد أنزلت روسيا القيصر الغازية عقوبات مروعة، بالقوقازيين، – ولا سيما المجاهدين وأسرهم – فتم هدم المساجد، وسحل الشيوخ ، وتدمير القرى ، ومارست عمليات إبادة منظمة ضد الشيشانيين والداغستانيين والشركس، كل ذلك كان بعض العمل اليومي للجندي الروسي، لمدة سبع سنوات ونيف. حتى أعلن الجنرال كراندوك “نهاية حرب القفقاس” سنة 1864، بعد مائة سنة من القتال! والمجازر المرعبة التي أفنت كثيرا من السكان في الإقليم ، فقد تدنى سكان بلاد الشيشان إلى ربع ما كان عليه، وتم طرد وتهجير مئات الآلاف من الشركس من ديارهم، التي أخرجوا منها ، عنوة ومن ورائهم الرصاص الروسي يلعلع، وأمامهم الطريق الطويل إلى المجهول، وقد مات كثير منهم في الطريق على فراش من الثلوج، وليستوطن بلادهم رعايا من الروس بدلا منهم. وعمد الروس بعد استسلام الإمام شامل وبعد أن فرضوا سيطرتهم العسكرية ، على إعادة سلطة الأمراء، الذين كانوا يحكمون بغير الشريعة، والذين حاربهم الإمام شامل والإمام غازي ملا من قبله ، ولكن لما استتب الأمر للروس بواسطة هؤلاء الأمراء عادوا فخلعوهم هم أيضا، ونبذوهم نبذ الحصاة.

لكن الروس بالمقابل لم يكسبوا الجولة دون مقابل، فقد خسروا الكثير في هذه الحروب، فقد كانوا يرسلون إليها الجيش تلو الجيش، ولكن إلى الفناء! كانت المنطقة مقبرة الجيش الروسي.ويقال أن القياصرة دفعوا إلى منطقة القوقاز الجبلية ، مليون ونصف مليون جندي ، ما بين تولي كاترين العرش سنة 1762 ، وحتى سنة 1864.. وما رجع منهم أحد!

وقد نقل الشيخ سعيد، حفيد الإمام شامل ، قول أحد القواد الروس الذين قاتلوا الإمام وأسروه: لولا وقوف هذا الشعب المقاتل في طريقنا لكنّا وصلنا إلى النيل غربا، وإلى بحر اليابان شرقا، بفضل القوّات التي خصّصناها للحروب القفقاسيّة.

والمؤرخ الروسي ” فادييف ” نفسه لم يتردد في القول بأن الحرب في شمال القوقاز شلت الجزء الأكبر من الجيوش الروسية بعض الوقت. وما زال تاريخ الانتفاضات الشيشانية يشكل ثقلاً مأهولاً فوق أكتاف الروس…

وبعد استيلاء الروس في عام 1864م على كامل القفقاس، كانت الهجمة الرئيسة من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على الدين الإسلامي في شمال القفقاس التي حاولت جاهدة نشر دينها ومذهبها بين الشراكسة، تحت إشراف الأكليروس الذين كانوا قياصرة إلى جانب القيصر.

ولم يمض عام من توقف حرب القوقاز حتى سقطت طشقند عاصمة التركستان في أيدي الجيش الروسي وذلك عام 1865 ثم بعد ذلك وقعت سائر البلاد الإسلامية في آسيا الوسطى فريسة للاحتلال العسكري الروسي، بل أن شهية روسيا قد انفتحت أكثر فتطلعت للوصول إلى مياه المحيط الهندي وإخضاع إيران وأفغانستان للسيطرة. فقد كان القوقاز هو خط الدفاع الأول لهذه الأمة في وجه الحملة الروسية الصليبية ضد الإسلام. وبانهيار هذا الجدار أصبحت جميع البلدان الإسلامية في آسيا الوسطى، مكشوفة أمام الدب الروسي الجامح.

ثورات متجددة باستمرار

وبالرغم من ذلك فلم تهدأ المنطقة فقد ظلت علاقة شعوب القوقاز بالسلطة المركزية في روسيا على الدوام علاقة صراعية، تتفاوت حدّتها وفقاً للظروف ولموازين القوى ولمواقع روسيا على الصعيد الدولي وعلاقاتها مع الدول الأخرى، وكذلك وفقاً لحال السلطة المركزية وللأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية – الأمنية في روسيا عموما. ففي عام 1877 ثار القوقازيون مرة أخري، بقيادة الحاج علي بك الشركسي – وهو أحد مريدي الإمام شامل – وذلك خلال الحرب الروسية – التركية، في البلقان ، وقد تطلبت مواجهة هذه الثورة الزج بـحوالي 24 ألف جندي روسي، وتم قمعها بكل قسوة في العام التالي، لتتكرر عند ذلك عمليات التدمير الشامل للمنطقة، وليساق عشرات الألوف من أبنائها الباقين إلى داخل روسيا ، والمناطق الجرداء فيها.

وعلى مدى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم تتوقف ثورة الشيشان وداغستان حتى قامت الثورة البلشفية في روسيا. فعشية اشتعال هذه الثورة عام 1917 ، دعا قادتها شعوب القوقاز المضطهدة إلي التخلص من نير الحكم القيصري، واستثاروا عواطفهم بالخطابات الرنانة المبشرة بالحرية وبانتهاء عهد الآلام والمصائب ، وهو ما بعث الأمل في الشيشانيين والانغوشيين والداغستانيين، فهبوا ينشدون الحياة والأمان والحرية – متوهمين أن هذه الثورة، من خلال مبادئها وشعاراتها البراقة، ستحقق أحلامهم – ونشبت الثورة ضد الجيوش القيصرية مستفيدة من الاضطرابات الداخلية في روسيا ، وتراخي قبضة موسكو على أعناقهم. فأعلن قيام دولة شمال القوقاز ، ولكن الجنرال الروسي القيصري دينكين, نجح عام 1918 في القضاء عليها قبل استتباب الأمر للبلاشفة، ولم يكد دينكين يقضي على الدولة الفتية حتى قامت حركة جديدة بقيادة الشيخ حجي الذي حرر جبال داغستان والشيشان وكبارديا وأوسيتيا، وأنشأ إمارة شمال القوقاز المستقلة.

ولكن البلاشفة بعدما قلبوا القيصرية واستتب لهم الأمر ألغوا هذه الإمارة، فنشبت عام 1920 ، ثورة جديدة بقيادة سعيد بك، حفيد الإمام شامل، وعمل البلاشفة على احتواء الثورة، واعترفت موسكو باستقلال )الجمهورية السوفييتية للجبليين) كما سميت، في إطار الدولة السوفييتية الجديدة.

واتبع البلاشفة السياسة ذاتها التي اتبعها القياصرة، بدعاوى ترسيخ الإخاء القومي وتعزيز الشراكة بين القوميات في وطن الاشتراكية، فقاموا باستقدام الألوف المؤلفة من الروس والسلاف والأكران ، وشحنت بهم أذربيجان وتركستان والقرم والقوقاز ، ونقلت جماهير المسلمين إلى براري سيبيريا وأواسط آسيا . وشهدت الفترة السوفيتية تدميرا للهوية الإسلامية لصرف المسلمين عن دينهم، فتم إلغاء المحاكم الشرعية، ومنع استعمال اللغة العربية وحولت المدارس والجامعات الإسلامية إلى مسارح وإلى مدارس للموسيقى ، وهكذا بعد أن كان المسلمون في هذه البلاد ، ضحية لتعصب القياصرة قبل الثورة التي أطاحت بهم ، أصبحوا بعد انتصار الشيوعية في روسيا ضحايا الإلحاد الذي يكره الدين كله ، وتحت رحمة عدو أكفر بالله ، وأجحد لشرائعه .

وفي الحرب العالمية الثانية اتهم «ستالين» الشيشانيين والانغوش والقراطشاي بمساعدة الألمان، وكانت النتيجة عملية قمع دموية، وإلغاء الاستقلال الذاتي، وإعادة تقسيم إدارية لشمال القوقاز لإضعافه وإحكام السيطرة عليه ، حيث تم تمزيق أوصاله إلى جمهوريات ومناطق عديدة على أساس الفسيفساء العرقية، تخضع مباشرة للسلطة المركزية في موسكو.

ونجح الشوعيون بهذه الخطة الجهنمية في تفتيت وحدة مسلمي القوقاز الدينية ، وفي إثارة المشاكل الحدودية والقومية فيما بينهم، وفي صرف الأنظار عن القضية الكبرى – وهي قضية الإسلام – الخيمة التي كان ينضوي بداخلها الجميع ، إلى قضايا عرقية صغرى ، بحيث صار هدف كل مقاطعة منصبا على المطالبة بحقوق للقومية التي تنتمي إليها فقط . كما نجحوا في مسخ الهوية الإسلامية، فأصبح الناس على جهل شديد بأبجديات الإسلام، وإن كانت لديهم عاطفة قوية تجاهه. وقد أدى الحكم الطويل للشيوعية إلى محو الفوارق الثقافية بين المسلمين وغيرهم على الأقل في الظاهر، فإنك إذا سرت ( اليوم ) في شوارع ماخاتشكالا – عاصمة داغستان – كما يقول أحد الذين زاروا المنطقة مؤخرا ، لا تكاد تلحظ الفرق بين المسلمين وغيرهم، ولا تكاد تلحظ أي مظهر من المظاهر يقول لك أن هذا بلد أغلبيته من المسلمين.

وفي تلك الفترة وتحديدا عام 1944 ، تم تهجير كثيراً من القوقازيين، إلى صحراء سيبيريا الثلجية، حيث درجة الحرارة (64) درجة مئوية تحت الصفر ، فلقي الآلاف منهم حتفهم بسبب الصقيع والمطر والجوع ، ثم عاد من تبقى منهم على قيد الحياة إلى بلادهم سنة 1957م ، بعد هلاك «ستالين». وقيل أيضا في سبب النفي أن بعض المقربين من ستالين أغروه بتوسيع رقعة جورجيا ( ستالين جورجي الأصل ) وفعلا فإن بعض الجورجيين والأوسيت جاءوا إلى منطقة القراطشاي وسكنوا فيها بدلا عن أهلها المنفيين.

وفي عهد غورباتشوف وبعد اندلاع الحروب الطائفية في القوقاز وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان، تمت عملية تهجير جديدة في سرية تامة بحيث جرى نقل أكثر من مليوني شخص من هذه المناطق إلى آسيا الوسطى.

الواقع الراهن وتوقعات المستقبل

وقد تجددت الثورات من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وعادت روسيا – الوريثة للقوة العظمى السوفييتية – لسابق عهدها في التعامل الوحشي مع هذه الشعوب، وما زال شعب الشيشان بخاصة وشعب القوقاز الشمالي بعامة، يواصل المقاومة ضد الروس. وصحب تلك التطورات انبعاث الروح الصليبية الروسية من جديد، حتى صار المرشحون للقيادات والمناصب العليا في روسيا يعزفون على هذا الوتر الحساس ، لكسب الرأي العام الروسي، ففي تسعينات القرن الماضي أجريت مقابلة مع الروسي اليميني المتطرف ” جيرونيفسكي ” أشار خلالها إلى أن المسلمين هم مصدر المشاكل التي تقلق العالم ، ووعد أنه إذا وصل إلى الحكم فسيقوم بإخضاع المسلمين جميعا لسيطرة الإمبراطورية الروسية ويكمل رسالة بطرس الأكبر وكاترين الثانية في دحر الممالك الإسلامية في آسيا والوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي والخليج.

كما صار ” بعض الباحثين الروس وباحثي “الإسلام السياسي” في آسيا الوسطى يقدمون معلومات تصور الحركات الإسلامية في روسيا وكأنها وحش متربص، له بنيته التحتية وخلاياه المتشعبة، وبرامجه طويلة الأمد للإجهاز على “الوحدة” الروسية”

ومن مظاهر محاربة الإسلام في روسيا أننا “لا نجد رجلا مسلما في حكومة روسيا، والسكان المسلمون بها يقتربون من 20% من سكان الدولة، بينما اليهود لا تتعدى نسبتهم 1% ويشغلون نحو 25% من المقاعد الوزارية؛ بل ويسيطرون على وسائل الإعلام بدرجة كاسحة.

ويرى بعض المحليين بأن الحرب القائمة في الشيشان ما هي إلا حرب بين الإسلام والكفر ، وأن الروس لم يعتدوا على الشيشان إلا لأن أهلها بدءوا بنشر الإسلام بين سائر شعوب القوقاز.

وبناء على ذلك، فإن القيادة الروسية المهووسة بالأمن القومي الروسي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 ، لا يبدو أنها مستعدة للتفريط في هذه المنطقة مهما كان الثمن – خاصة في ظل التوغل الأمريكي – الأوربي في القوقاز واسيا الوسطى – إضافة إلى كون منطقة القوقاز الشمالي ذات أهمية جيوسياسية واستراتيجية كبيرة بالنسبة لموسكو، فهي من ناحية تشكّل الجسر الذي يصلها بمنطقة بحر قزوين، التي يحتدم التنافس الدولي حولها في الوقت الراهن بسبب ثرواتها المعدنية الطائلة. علما بأن معظم المناطق الروسية الغنية بالنفط في هذه المنطقة هي أصلا مناطق إسلامية.

ومن ناحية أخرى فإن هذه المنطقة ، بعد استقلال دول القوقاز الجنوبي ( أرمينيا وجورجيا وأذربيجان ) باتت تمثل الحدود الدولية لروسيا مع الجيران، بعد أن كانت منطقة معزولة داخل البيت السوفيتي. هذا فضلا عن حرمان روسيا من منافذ بحرية هامة بعد استقلال هذه الدول، إلى جانب حرمانها من سواحل أوكرانيا الطويلة في شمال البحر الأسود.

وهذا يعني أن مأساة المسلمين في المنطقة مرشحة للاستمرار إلى أجل طويل، وإلى أن يشاء الله، نسأله الله لهم الصبر والثبات.

الكاتب: أحمد الظرافي

_________________________

المصـــادر

أولا: باللغة العربية

– الصافي سعيد ، التاريخ الرهيب والناقص للمأساة الروسية – الشيشانية …الموت من اجل غروزنايا! ( مقال )

http://www.azzaman.com/azz/articles/…-23/a88495.htm – 15k

– محمد دياب، القوقاز .. صراع النفط والهوية، مجلة العربي العدد 498، 1/5/2000

– عاطف معتمد عبد الحميد، الشيشان .. بين استاتيكية الجغرافيا وديناميكية السياسة ، مجلة العربي العدد 533 ،1/01/2003

– عز الدين سطاس ، مقدمته ترجمته لمسرحية “شارلوتا عاشة ” ، مراجعه د ابراهيم الداقوقي، سلسلة من المسرح العالمي ، العددان 280-281 ، سبتمبر – أكتوبر1994 ، المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب – الكويت

– أبو بكر السقاف، ملحوظات أولية في قضية التحرر الوطني الشيشاني ( مقال )، (1/2 ) ، صحيفة الوسط اليمنية، الأربعاء 18 مايو 2005

– عبده مصطفى دسوقي، الشعب الشيشاني.. شهيد الإسلام ( مقال )، مجلة المجتمع العدد 1667، تاريخ 3/09/2005

http://www.almujtamaa-mag.com/Detail…sItemID=170059

– الدكتور شاكر مصطفى ، على هامش مأساة البوسنة والهرسك، الشركس.. كيف أخرجوا من ديارهم؟ ( مقال ) ، مجلة العربي العدد

– مصطفى محمد الطحان، جمهورية شاشان ( 1) ( مقال ) ، موقع رابطة أدباء الشام ، http://www.odabasham.net/show.php?sid=3450

– محمد بن موسى الشريف، المجاهد الداغستاني الإمام شامل ، مجلة المجتمع، العدد 1813 بتاريخ 02/08/2008

http://www.almujtamaa-mag.com/Detail…sItemID=280305

– مصطفى نبيل ، عالم المسلمين السوفيت ، القابضون على الجمر في بلاد ما وراء النهر ( استطلاع ) ، مجلة العربي ، العدد ، 308 يوليو 1984 ص 90

– الفضل شلق ، صعود الغرب: عرض وتلخيص ( وليم ما كنيل ) ، مجلة الاجتهاد ، دار الاجتهاد بيروت ، العددان 34و35 ، شتاء وربيع العام 1417هـ- 1997

– عبد المنعم الأعسم، الشيشان.. بلاد مسكونة بالحلم والأساطير والمقاومة ( مقال ) ، العربي 1/5/ 1995

– عاطف معتمد عبد الحميد ، شعب الشيشان .. الحرية أو الموت ، موقع إسلام أون لاين ،14/2/2004

– محمد الغزالي، الإسلام في وجه الزحف الأحمر ، منشورات المكتبة العصرية ، بيروت- صيدا ، بدون تاريخ.

– برزج أمين سمكوغ، المماليك ظاهرة الشرق الفريدة ( مقال ) ، العربي العدد 530أكتوبر2003

– احمد مختار العبادي، قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1406- 1986

– بلاد الطاغستان والشيخ شامل، عن كتاب “حاضر العالم الإسلامي” للأمير شكيب أرسلان (بتصرف) ، مجلة البيان ، الشبكة الإسلامية.

– عبد القادر علي ورسمه ، الشيشان تاريخ نضال شعب من أجل الحرية والاستقلال،

مجلة الفرقان ، العدد رقم: 366 التاريخ: 21/10/2005

http://www.al-forqan.net/linkdesc.as…7&ino=366&pg=3

– محمد م. الأرناؤوط ، محمد علي باشا والشيشان ، الغد

http://www.alghad.jo/?news=82377

– مجلة السنة ، العدد 60 جمادى الأولى 1417هـ

– فاطمة إبراهيم المنوفي، مسلمو القرم.. غرباء في أوطانهم! مجلة المجتمع، العدد 1793، بتاريخ 15/03/2008.

http://www.almujtamaa-mag.com/Detail…sItemID=264022

– محمد علي الفرا ، أفق المعرفة الجغرافية عند العرب في العصور الوسطى ، ( مقال ) ، مجلة العربي، العدد 360 ، نوفمبر 1988.

– بسام العسلي ، المظفر قطز ومعركة عين جالوت، سلسلة مشاهير قادة الإسلام ،

– عدنان محمد قبرطاي، حروب التتار والمغول في شما القفقاس، http://www.geocities.com/adiga2001syr/Tatar.htm

– مجدي سعيد، داغستان..سطور من دفتر الحالة الإسلامية، 01/09/2005 ، http://www.maganin.com/articles/arti…ew.asp?key=325

– أحمد تمام، معاهدة كيتشك كاينجاري.. وتدهور الدولة العثمانية، http://www.islamonline.net/Arabic/hi…rticle02.shtml

– محمد المنسي قنديل، أذربيجان .. نيران على بحر قزوين ( استطلاع ) ، مجلة العربي العدد 473، أبريل 1988

– مكارم الغمري، رسول حمزاتوف: قثيارة داغستان الأصلية ، مجلة العربي العدد 403، يونيو1992

– مصادر أخرى.

ثانيا: باللغة الانجليزية

– Independence War ، http://ozturkler.com/data_english/0007/0007_16_29_2.htm

– Russian Intrusion into Caucasia

http://ozturkler.com/data_english/0007/0007_16_27.htm

http://www.aljazeeratalk.net/forum/showthread.php?t=196204

Share Button