كيف يمكن لروسيا أن تتعلم من هلسنكي — مقال افتتاحي

كيف يمكن لروسيا أن تتعلم من هلسنكي (مقال افتتاحي)

الكاتب: فيودور لوكيانوف (Fyodor Lukyanov)

19 أغسطس/آب 2015

ترجمة: عادل بشقوي

22 أغسطس/آب 2015

5677-08-med_ussr13

مرت الذكرى الأربعين لتوقيع إتفاقية هلسنكي الختامية لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا دون أن يلاحظها أحد في روسيا تقريبا. ربما لأن التوقيت يصادف خلال فترة هي أكثر الفترات غير المستقرة بشكل منتظم في أوروبا منذ أن تم التوقيع على الإعلان.

كانت الوثيقة الختامية حلا وسطا على نطاق واسع، وبدون الكثير من التفاصيل الملموسة، لكن في جدول الأعمال نفسه. حصل الاتحاد السوفياتي على ما سعى له خلال العملية برمتها من أجل — تأكيد حدوده الأوروبية التي تلت الحرب العالمية الثانية والتنسيق بين القوى التي نشأت إثر نهاية الحرب.

كانت الثلاثين عاما بين عامي 1945 و 1975 هي ذروة قوة الدولة الروسية (في شكلها السوفياتي)؛ ارتفعت سريعا لموقف إحدى الدول الرائدة في أوروبا، ومن ثم إلى مركز قوة عالمية عظمى مع وجود منافس وحيد. بعد هلسنكي، أصبحت لعبة الحفاظ على هذا الموقف، وكان أحد المواضيع في تلك اللعبة، على سبيل المثال، أفغانستان.

لم تكن مسألة لتوسيع نطاق نفوذ الاتحاد السوفياتي، لكن بداية لانحداره. باختصار، لمست القيادة السوفيتية بشكل صحيح (ربما بشكل غريزي وليس منطقي) اللحظة عندما احتاجوا الى “التمسك بمكاسبهم”.

عاش الغرب للتو  في تلك اللحظة أزمة داخلية، نجمت جزئيا عن فشل السياسة الخارجية. كانت أوروبا والولايات المتحدة تمر بموجة صراعات من أجل الحقوق المدنية، والمحفز لخسارة أميركا في فيتنام، ولفرنسا في الجزائر وغيرها من المستعمرات، فضلا عن فقدان بريطانيا المؤلم لمكانتها كقوة عالمية.

إن طاقة التوسع الخارجي، التي كانت دائما واحدة من القوى الرئيسية الدافعة وراء تطور الحضارة الغربية، تحولت إلى الداخل، نحو تحول مجتمعات الدول الغربية ذاتها. واضطرابات ستينيات القرن الماضي كانت مفيدة للغرب، مؤدّياً ذلك ليس لثورة، ولكن إلى أساس اجتماعي قوي للحكومات نتيجة لإدراج فئات جديدة للتأسيس.

وبالتالي، كان التحول الاجتماعيم خلال التوسع في حقوق الإنسان فكرة مهيمنة في السياسة الداخلية للدول الغربية في الوقت الذي بدأت فيه عملية هلسنكي. لكن موجة تصفية الاستعمار وصحوة العالم الثالث تسببتا في إعادة النظر في أدوات السياسة الخارجية كذلك، وهي من الأساليب الأقل تبريراً من القوة المباشرة للتأثير بالواسطة من خلال وضع مثال لاستخدام الإقناع.

بعد خمسة عشر عاما هذا من شأنه أن يطلق عليه “القوة الناعمة”، لكن في ذلك الوقت، كانت مدرجة في الترتيب الثالث، وهو “السلة” الإنسانية في عملية هلسنكي.

الصفقة الرئيسية تشارك بالضبط — وافق الاتحاد السوفياتي على “السلة الثالثة” والالتزام الرسمي بحقوق الإنسان في مقابل موافقة الغرب على السلة الأولى — بصيانة مضمونة للحدود السوفيتية ومجال النفوذ في أوروبا.

من المشكوك فيه أن أي شخص في ذلك الوقت أدرك تماما أهمية الصراع الوشيك، ولكن حدد سلفا تطور أوروبا والعالم حتى يومنا هذا.

منذ عام 1975، اتخذ الإتحاد السوفياتي دور قوة وضع راهن توجه ليس عن طريق أفكار أو حتى طموحات، لكن من خلال ضرورة الحفاظ على ما استحوذت عليه. ذهب الغرب في اتجاه إيديولوجي إضافي (بتنفيذ نهج قائم على القيم) وتحريف واقعي.

لكن المسألة مدار السؤال لم تكن الخطوط الجيوسياسية لخصمهم، ولكن النموذج الاجتماعي والسياسي للآخر. حتّى أكثر من ذلك، فإن النموذج السوفياتي لم يعد يجري تطويره في تلك المرحلة، بل الحفاظ عليه.

يبين التاريخ من الذي فاز في تلك الصفقة ومن الذي خسر. وكان فقط بعد ذلك بعشر سنوات عندما بدأ الاتحاد السوفياتي بالتفكك. تحت قيادة ميخائيل غورباتشوف (Mikhail Gorbachev)، تحرك في اتجاه اتباع نهج قائم على القيم، ثم بدأ في التراجع عن الفتوحات الجيوسياسية التي كان قد شرع فيها في عملية هلسنكي في المقام الأول.

وطبيعة الحال، لم تكن عملية هلسنكي مسؤولة عن سقوط الاتحاد السوفياتي؛ لقد كانت تتنامى الأسباب لفترة طويلة، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي الأولويات غير الصحيحة — القضايا الخارجية على الداخلية. لكن مجموعة “السلال” بلورت هذا الموقف، وأن الحدود غير المستقرة، كانت النتيجة الرئيسية لهلسنكي.

الغرب، تأكّدت معتقداته عبر تفكك الكتلة السوفياتية، والتوسع المتجدد بثقة، والاعتماد على الأيديولوجية التي أثبتت أنها مفيدة. بحلول منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، علق نهوض النفوذ الغربي عالميا. وتحاورت الولايات المتحدة وأوروبا حول تهديد النظام الحالي من أصحاب النظريات، من القوى غير الديمقراطية — وبشكل رئيسي روسيا والصين.

الغرب يعلن حمايته من الوضع الراهن، لكنه يفهم بأن يكون توسعه دون انقطاع، بما أن النظام وفقا لهذا الإصدار يعني انتشار متسلسل لرأي عالم ليبرالي وآلياته الحاضرة.

الغرب، منشغل بأولويات أجنبية ويرغب في منع وجهات النظر الإصلاحية لنتائج الحرب الباردة، ويواجه بوضع داخلي متفاقم. إن نمو الحركات الاحتجاجية وعدم الثقة لدى الطبقة الحاكمة، واستقطاب المجتمعات في بلدان رائدة كلها تبدو مماثلة للعام 1968، لكن الأزمة الحالية ستؤدي ليس إلى إصلاح، لكن لمحاولات للحفاظ على ما تم إنجازه. والذي من شأنه تقويض السلطة “الأخرى” التي كسبها الغرب عندما خرج أقوى إثر اضطرابات الستينيات من القرن الماضي.

روسيا تتجول في مسار متعرج آخر. أدّى سقوط الاتحاد السوفياتي أولا إلى الرغبة في أن يصبح الغرب جزءا من تلك “السلة الثالثة”، والتي أثبتت قوتها العظيمة. صحيح، كان هيكل الحكومة في الواقع والذي بدأوا ببنائه في البدء (بتشجيع داعم من الغرب في البداية) موجّهاً من قبل أي شيء ما عدا فكرة توسيع الحقوق والحريات الحقيقية، ولم تكن النتيجة النهائية حسنة.

لم يعد النعيم الإنساني ليمر، وفقدت السلة العسكرية/السياسية “الأولى”. وتسبب ذلك في مسعى لاستعادة تلك السلة الأولى على الأقل، وخصوصا أن في العالم المحيط، أصبحت الدول الكبرى تستعمل مرة أخرى القوة المباشرة.

روسيا، وباتهامها أنها استرجاعية، مقتنعة أنها هي في الواقع تحاول الحفاظ على ما تبقى من الوضع الراهن، وحمايته ضد الغرب المتغطرس والمتهور. هذا، ومع ذلك، يتطلب في بعض الأحيان وضع تلك المبادئ الراسخة جانباً والتي كتبت قبل 40 عاما.

باختصار، كل شيء مشوش جداً بحيث انه ليس حتى من الممكن تحديد من هو الإسترجاعي ومن هو الوصي. أو ما هو أكثر تدميرا — النشاط الغربي، الهادف إلى تحويل العالم، فيما إذا كان العالم يريد ذلك أم لا، أو ضربات السيف الروسي ردا على ذلك، كان يعني كتحقّق ضد الناشط الذي ذهب بعيدا جدا.

عندما تفكر روسيا بصك هلسنكي، يجب عليها أن تأخذ بعين الاعتبار الدروس التي كان الغرب مستعدا لإضفائها في حينه، ويبدو أنه قد نسيها الآن. وتعني الطريق إلى النجاح على الساحة العالمية الذي يبدأ بتحويل الإخفاقات الخارجية إلى طاقة لتطوير الذات، والاعتماد على الإمكانات البشرية الفكرية.

منذ بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي وإلى منتصف العقد الثاني من هذا القرن، لم يتراكم لدى روسيا أية إخفاقات في السياسة الخارجية أقل من الغرب في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وهذا هو، أكثر من ما يكفي من المواد الخام التي تعكس وترسم الطاقة اللازمة للتجديد الاجتماعي؛ وهي نفس الطاقة التي حدّدت مرة انتصار الغرب في الحرب الباردة.

فيودور لوكيانوف هو محرر في صحيفة “روسيا في الشؤون العالمية” وأستاذ باحث في الكلية العليا للاقتصاد.

المصدر:

http://www.themoscowtimes.com/opinion/article/russia-can-learn-from-helsinki-op-ed/528281.html

Share Button