تأملات في رائعة ميخائيل لاخفنيتسكي”دويُّ الرّعد”

تأملات في رائعة ميخائيل لاخفنيتسكي”دويُّ الرّعد”

9 / 11 / 2014

رعد خالد تغوج

وكان الناسُ شعباً واحداً …. لكنهم تفرقوا ….

“دَويُّ الرّعد” هي مُبتدأ الجُملة وخبرُها الذي لم يكتمل بعد في الأدب السوفيتي، فَرصدُ الحرب العادلة في متن المدونة الأدبية يخضعُ – أكثرُ ما يخضع – لاعتباراتٍ أيديولوجية ، وهذا ما أدى إلى تهميش إيليو فيتوريني في سرديات المقاومة والرفض الإيطالية فترةً من الزمن ، وهذا ما أدى بألبير كامو أن يعتزل الأيامَ ذوات العدد قبل أن يَحبّلَ بسيزييف ، وما جعل جورج أوريل يسخرُ من العدالة والإعلام والمجتمع في “مزرعة الحيوان”، والحربُ القفقاسية التي راوحتْ بين جُورَين، مدّ روسيا القيصرية من جهة وجَزْرِ الدولةِ العثمانية من جهةٍ أخرى، ليستْ بِدعاً من هذا التصور للأدب الموجه في تلك الفترة، رغمَ أنَّ الشجنَ الإنساني المُزمِن مزقَ الديستوبيا المُتخيلة لأحلام القياصرة عصرئذٍ ، فسَطَّر السردُ ملحمة العدلٍ مرةً أخرى في أعمال ديستوفسكي وتولستوي وليرمانتوف وغيرهم من أبناء تلك السلالة الخالدة، ومِن تلك المُضغة ظهرت طُغمة وُصفت في الأعمال النقدية الموسكوفية بــ”الرجعية”، وبين رؤية مُحدبة وأخرى مُقعرة للحرب القفقاسية ظهرَ ميخائيل لاخفنيتسكي صاحب رواية “دويَّ الرّعد” الذي وظف التاريخ في السرد الروائي الخيالي، مُعبراً عن روح الشعب الذين كانوا واحداً ثم تفرقوا … ومن هنا تبدأ الرواية .

يتركُ البطل في رواية دويّ الرّعد الجيش الروسي القيصري طوعاً ليلتحق بالجبليين القفقاسيين، وهنالك تبدأ الرؤية الأنثروبولجية لعادات وتقاليد تلك الشعوب ، وتبدأ بالانسحاب الصُور التقليدية والكليشهات الجاهزة حول تلك الشعوب التي لم تُدون حضارتها وثقافتها ، وبقيت عدداً من السنين ترزحُ تحتَ جُور الثقافة الشفوية التي هي برسم التزوير والتحريف، ويتزوج هنالك من إحدى الشركسيات الجميلات (زيادات) التي تُقتل من قبل القوات الروسية في اليوم الثاني مِنْ الزواج .. عَبْرَ هَذهِ السرديات يرسمُ الكاتبُ صُورة الخيانة والأنانية والفردية عند الروس ، في موازاة صُور التضحية والفروسية عند القفقاسيين ، فيتحدثُ عنهم قائلاً :

” ماذا كُنتُ أعرفُ عن القفقاس في شبابي ؟ بكلمات مختصرة كانت معلوماتي تتألف مما يلي : تعيش في القفقاس قبائل متوحشة ، مقاتلة ، تمضي حياتها في غزو المقاطعات المجاورة. أناس يدينون بالمحمدية ، ولن يرتاح المسيحيون قبل إخضاعهم نهائياً ، وهم ككل الآسيويين ، كسولون وغفلة ، وبالاختصار ، لم يكن بالنسبة لشاب نبيل مثلي خدمة يقدمها أشرف من القتال ضد الجبليين”ص(12).

” … وقد أبدتْ أمي رأيها بالجنود الشراكسة بأنهم ممشوقو القامة ، جذابون، عفيفو النفس ، وكان رأيها أن النساء سيكنَّ بتلك الدرجة من الانتباه لو كان مكان أولئك الجنود نمور من أفريقيا” ص(13).

وعلى نقيض من تلك اللوحة للذين توضؤا بالدم والكرامة من الجبليين الشراكسة ، يُصور الكاتب شخصية الجنود القياصرة في حربهم المُدنسة ضد أهالي الجبل ، وهي رؤية دفعتْ البطل إلى التخلي عن الروس والفرار إلى الثوار الجبليين من أتباع شامل باسييف.

” أما تيموفي فقد كان مرة ثملاً ، فقام ووقف باستعداد وأعطى لنفسه أمراً عسكرياً : إلى الأمام سر، ومشى وهو ينشد أنشودة حربية :

أي شراكسة ، لا تتغطرسوا

دروعكم هباء

وأن تبقوا في الجبال أفضل من أن

تتأرجحوا على الحراب

استعطفوا الكسندر ليشملكم بعطفه

واركعوا على ركبكم

أمام أعظم القياصرة” ص(15).

السَّرد القِصصي :

يأخذ فن الحكي في رواية دويّ الرّعد طابع الواقعية التاريخية وهو ما يُميز الأدب الروسي والسوفيتي بمُجمله، وبعيداً عن التسجيلية التي ميزت بعض الأجناس الواقعية ، فإن هذا العمل يتميز بتدوين فترة عاشها الأديب نفسه ، وأخرى لم يعشها في الزمن السابق، فالصراع الروسي – القفقاسي امتد لعشرات بل مئات السنين ،حاولتْ فيه روسيا مد سيطرتها على وسط أسيا وإخضاعها لزحزحة قوى بريطانيا العظمى، وصد هجمات الدولة العثمانية الجهادية ضد أوروبا الشرقية.

وكما يقول أنطونيو غرامشي في كتابه “الرواية التاريخية” فإن التاريخ يُوظف لمصلحة أيديولوجية ، وعادةً ما يلجأ الروائي إلى تأويل الفجوات التاريخية والأحداث المتقطعة عبر الخيال، وكانتْ الحروب القوقازية مجالاً لرسم التاريخ على يد القوة المسيطرة، بسبب غياب الثقافة الكتابية واندياح موجة الشفوية بكل ما تحمله من تحريف وتحوير، والتاريخ الطويل – حسب تعبير مارك بلوخ – لا يبحث عن الجذور بقدر تفسيره للآني والممكن من الصراعات الطبقية في الماضي القريب.

لكن هل يختلف السرد التاريخي بكل ما يحمله من فنون القول والحكي والرواية ، عن السرد الفني القصصي وآليات اشتغاله على مستوى لسانيات النص وفنون الخطاب؟ إن المؤرخ القديم هو مدعو اليوم لقراءته أدبياً وليس علمياً أو ابستملوجيا، وهو برسم تبرئته من المنهجية لغياب الأرشيف والوثيقة التي أصبحت جزءاً من علم التاريخ الوضعي، وقد أفاد المؤرخون المعاصرون من فتوحات مدرسة الحوليات الفرنسية وروادها أمثل لوسيان فيفر ومارك بلوخ وفرناند بروديل وفيدال دي بلاش في هذا المجال، وهذا ما جعل العمل الروائي التاريخي يقفز خطوات جريئة في سردياته، فنلاحظ بعض الروايات الأدبية التاريخية تنزع نحو تدوين المراجع والمصادر في مقدمة رواياتها، مع أنها تعلن عن نفسها بأنها عمل روائي فني وإبداعي ، ونجد مثل هذا النموذج عند واسيني الأعرج وعبد الرحمن عدوان وصنع الله إبراهيم وغيرهم من روائيي الواقعية التاريخية.

غير أن جميع تلك الأعمال هي نتاج فتوحات الحداثة وما بعدها في الخطاب الغربي المعاصر ، والخطاب الفرانكفوني والأنجلوساكسوني بالذات، مما يجعل “دويّ الرّعد” بعيدة عن هذا الجدل وتلك الرؤية الحداثوية.

تأخذ “دويّ الرّعد” شكل الكتابة الذهنية ، فقد بدأتْ أول ما بدأت بجملة : “ذكريات جدي ز.ي. لاخفنيسكي” ، من ثم بدأ البطل ياكف قيصروف بسرد الأسباب التي دفعته لتدوين سيرته الذاتية، ومِنْ الدوال التي تشهد على تسرب بعض التسجيلية في متن المدونة ، هو توظيف التناص السردي كإستراتيجية للقول والحكي ، وهنالك شواهد من صُحف ومجلات ضُمنت داخل النص لتشكل نصاً موازياً حسب تعبير جاك دريدا.

“بين الكتب والمجلات التي جمعتها خلال سنوات النفي (وأكثرها عن القفقاس) يوجد العدد التاسع من مجلة (المعاصر) عن عام 1859، فيه مقال لا أذكر مؤلفه، يقول فيه ان سوء المحصول، وظلم الإقطاعي وسوء معاملة الرئيس، من الأسباب الأخلاقية المؤدية إلى عدم سير الحياة بشكل سوي، مما يدفع الإنسان إغراق حزنه بالخمر، وتلك ملاحظة صحيحة”ص8.

“في مجلة تاريخ الكنيسة عن عام 1864، نشرت مقالة، عن زيارة الأمير النبيل ميخائيل لدير فاريسون، ….) ص13.

لقد أنسنَ ميخائيل لاخفنيتسكي التاريخ وجعل الحربَ بؤرة للتعبير عن أمراض المجتمع وشجونه، وبرع في ذلك عندما انتزع “الكلام” من الضابط الروسي السابق والفار من القيصرية ، وجعله يتحدث عن ما رأى من موت جماعي واضطهاد عرقي:

” نظرتُ إلى المكان ، كان فيه أناس بلباس الجَبليين رجالاً ونساءً ، مستلقين على الأرض فرادى وأزواجاً وأحياناً بشكل صف طويل بعضهم انكب على وجهه أو على جانبه، والأكثر كان مستلقياً على ظهره، وقد عقدوا أيديهم على صدورهم ، لم أرَ قبل ذلك العدد الكبير من الموتى، كيف مات هؤلاء؟ إذا كان من انفجار قنبلة أو من الرصاص لكانت الجثث مشوهة ، هل هي الكوليرا ، أم مرض آخر رماهم هنا؟ …. وعندما قررنا الرجوع لاحظتُ أنَ كل الجبليين كانوا مُستلقين ووجوههم إلى الشمس، أي إلى الشرق، إذن فهم لم يموتوا من مرض وإنما استلقوا قاصدين الشرق قبل موتهم!!” ص(44+45).

لقد أجاب لاخفنيتسكي يوماً عندما سُئل عن سبب كتابة قصة تاريخية وعن الشراكسة بالذات؟

قال : أولاً، من الأمور المسلم بها أن الإنسان إذا لم يدرك الماضي جيداً إذا لم ينقب في القرون التي أصحت جزءاً من التاريخ، لن يستطيع أن يفهم الحاضر كما ينبغي أن يفهمه، وثانياً كانت لدي دوافعي الشخصية القوية جداً لأكتب شئياً عن الشعب الذي تمتد جذوري إليه وعن سيرة حياة جدي “زكريا أجوق”، فما رواه لي جدي مراراً وتكراراً عن ذكريات طفولته، لم تدهشني فقط بل كانت قد نحفرت في أعمق أعماقي وصارت شغلي الشاغل منذ أن بلغت سن الرشد وبدأت الكتابة، وألحت علي فكرة واحدة فحواها: يجب أن أنقل إلى الورق عذابات الشعب الشركسي ومعاناته من اضطهاد القيصر، ورفض الناس الطيبين في روسيا للسياسة الاستعمارية التي طبقها القيصر بالقول والفعل.. اه.

http://www.adabfan.com/magazine/3718

Share Button